دائمًا ما يسيطر على الساحة الثقافية الأدبية “كهنة” منزلون من السماء، حكام بأمر الشيطان وليس بأمر الله، كلمتهم آية، ورأيهم قانون، ووجهة نظرهم “متنزلش الأرض أبدًا”، هكذا يتصور البعض ممن عاصرناهم منذ سبعينيات القرن الماضي، يقولون للنص “كن فيكون”، وللرواية سيري على بركة الله فتسير على بركة الله، وللقصيدة أنتِ بالفعل قصيدة، فتقام المآدب والندوات احتفالاً بمولد نجم جديد.
المعيار مجرد رأي، مجرد شخص يقود القطيع، وفكرة يؤمن بها الرفقاء، مؤخرًا خرج علينا أحدهم منتقدًا الآراء التي يبالغ أصحابها في مدح شاعر هو لا يراه شاعرًا، وقال بالحرف الواحد: ما هذا الذي أراه من نفاق لمبدعين ليسوا بمبدعين، ولشعراء نصوصهم لا ترقى لكي تكون نصوصًا، ربما يكون الشخص الملقب بمؤرخ هذا الزمان وكل زمان، لديه بعض الحق في أن ظاهرة المدعين للأدب أصبحت منتشرة في الأوساط الثقافية المنفلتة أصلاً، وربما لأن هذه الظاهرة امتدت لبعض “المتأدبين” ليكتبوا في كل فنون القصة والرواية والزجل “الشعر العامي” والقصيدة الفصيحة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ربما ذهبت خيالاتهم الخصبة ليقرأوا الكف والفنجان، ويعدوا النجوم في عز الظهر. ربما يكون الزميل المهيمن على “منصات الحكم” الثقافية معذورًا لأن ما يحدث على الساحة الأدبية من فوضى قد يجبر الكثيرين على الاعتقاد بأن كل ما يكتب هراء في هراء، وأن هذه الفئة من الدخلاء هي التي شوهت كلمة “أدب”، وهي التي أدخلته في مأزق لا أحد يعرف من أي نفق يمكن المرور، وفوق أي جسر سيعبر العابرون. القضية متداخلة، والزميل الضليع أو الهارب من “النقد” أصبح أكثر ضلوعًا في الانتقاد العشوائي، بل وفي التعميم من دون أي انتقاء للحالات المتجاوزة وتلك التي تدعي الأدب بلا أدب.
النقد الأدبي عادةً ما يحتل نواصيه كُتاب مخضرمون، وجهابذة وفقهاء، أساتذة جامعات وشخصيات لها باع طويل في النقد والكتابة والانتشار وربما في ممارسة الإبداع خلال فترات مبكرة من العمر.
وكنا نلتمس الأعذار لهؤلاء، بل إنهم كانوا يحصلون من التبجيل والتقدير ما دفع إلى وضعهم في أماكن التصنيف الحساسة بوزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم وغيرها، قد يكون الحق كل الحق مع الدولة، وقد يصبح الداخلون إلى محراب النقد كالخارجين منه، كل يحمل بين أياديه فرعًا من سعف النخيل كي يترحم به على موهبته، وكل من الأجيال اللاحقة يذهب عن طيب خاطر وربما عن اقتناع إلى فراشه مكلومًا، مأبونًا لإحساسه بالظلم الواقع عليه في وقت لا يستطيع الدفاع فيه عن نفسه، فقط عليه الاستماع لملاحظات أباطرة الحياة وكل حياة، وما عليه إلا السمع والطاعة.
حكم نهائي بات بأنه شاعر أو لا شاعر، من فريق متخصص في نسج الإحباطات من حول الموهوبين، وغربلة الانتقادات لانتقاء الأشرس، والأعنف والأقل تهذيبًا.
على أية حال كانت أول لجنة في الإذاعة المصرية تسمع إلى عبدالحليم حافظ، لم تعترف به كمطرب، وطردته من عرين الغناء شر طردة، لكنه وكثيرون غيره حاولوا مرة أخرى، وحصلوا على حب الشعب كل الشعب، فلا تيأسوا أيها الحقيقيون من رحمة الله، فهي أوسع وأعمق وأكثر قداسة من هؤلاء الذين يحكمون بكل أمر، ولا يدركون بأنهم قد يعدمون موهبة واعدة، أو فنانًا كبيرًا، أو شاعرًا خالدًا، وهم لا يعلمون.
* كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية