العدد 5575
الجمعة 19 يناير 2024
banner
تحديات الوساطة كبديل لحسم المنازعات
الجمعة 19 يناير 2024

تعتبر الوساطة التي تتم عبر أحد الوسطاء لحسم المنازعات التي تحدث بين الأطراف، وخاصة في المسائل التجارية، من أنجع البدائل المتوافرة للمساعدة في إنهاء وحسم النزاع القائم بين الأطراف. الوساطة بدأت منذ فترة طويلة بل ومع بداية تشعب العمليات التجارية والنشاطات الاجتماعية الأخرى، ولقد اكتسبت زخما خاصا في العقود الأخيرة، حيث ظهر جنوح بعض الأطراف عن التقاضي أمام المحاكم والبحث عن البدائل الأخرى لتسوية المنازعات.
ومع انتشار الوساطة وتبين ملامحها وفوائدها، قامت بعض الدول بإصدار قوانين أو لوائح خاصة لتنظيم المسائل المرتبطة بالوساطة، مع وضع الإجراءات والموجهات العامة للاسترشاد بها عند اختيار الوسطاء الأفراد، أو عند إنشاء المراكز الخاصة لتأسيس الوساطة المؤسسية، إضافة إلى العديد من الأحكام الأخرى. وأهمية التنظيم تنبع من أن معظم الوساطة تتم عبر الأفراد من الوسطاء، الذين يتم اختيارهم وهم موضع ثقة من الأطراف، ويتمتعون بالاستقلال والحياد المطلوب مقرونا بالأمانة والنزاهة، ولكن تنقصهم الخبرة والدراية اللازمة لإدارة الوساطة. وهذه المسائل الإجرائية قد تضر بالوساطة كإجراء وكصناعة تتطلع للتطور، وأيضا تضر بأطراف النزاع، ومن هذا قد يتأثر سير العدالة وفق الكيفية والميكانيكية التي ارتضاها الأطراف. والجهل بالإجراءات قد يفقدنا الجوهر والمضمون، ويقود ببديل الوساطة إلى ما لا نهاية أو الانهيار التام له ولمراميه السامية.
القوانين المذكورة تتيح للأطراف أنواعا عدة من الوساطة لاختيار النوع الذي يناسب الأطراف أو الظروف الخاصة بالنزاع، ومن هذه الأنواع تلك التي تتم عبر المحاكم (حيث تقوم المحكمة بدور الوسيط بين الأطراف المتنازعة وفق إجراءات معينة تحددها القوانين)، أو الوساطة الخاصة بنوع معين من القضايا كالتي تتم بين البنوك مثلا عبر السلطات الرقابية وقضايا المنازعات العمالية وقضايا الحدود والمنازعات السياسية بين الدول.. وغيرها، أو الوساطة الاتفاقية التي يتفق عليها الأطراف فيما بينهم لتسوية المنازعات التجارية والحقوق المرتبطة بها. مع العلم أن لكل من هذه الأنواع المتعددة للوساطة أحكامه وتبعاته، وهذا التعدد له بعض الجوانب العملية الخاصة ببعض المهن وله إيجابيات أخرى؛ لأنه يتيح للأطراف اختيار النوع الأمثل لتسوية النزاع القائم بينهما، والذي قد يتسبب في إحداث خسائر فادحة إذا لم يتم حسمه في أسرع وقت وداخل نطاق ضيق، من دون أي ضوضاء أو إعلام.

والوساطة كبديل لتسوية المنازعات ولدت لتبقى وسط كل الظروف وتعدد المستجدات المرتبطة بالتجارة وأعمال نشاطات الاستثمار. والوساطة كمنهج وصناعة لها العديد من المميزات الخاصة مما يقويها ويقود إلى بقائها. إلا أن هناك بعض التحديات التي تواجهها الوساطة، من ضمنها قلة القضايا المحالة للوساطة في العديد من الدول؛ وذلك لعدم انتشار هذه الثقافة بين عموم الجمهور والتجار الذين لم تتكون لديهم قناعات كافية وراسخة بأن الوساطة، كبديل منهجي، ستقود إلى تحقيق أدوار ملموسة في تسوية المنازعات التجارية الكبيرة. وطبعا هذا يحتاج إلى زمن لتغيير ثقافة الأفراد والمجتمعات وهذا يتطلب بذل الجهود من الأفراد من ذوي العلاقة ومؤسسات المجتمع والمراكز الخاصة بالوساطة إضافة إلى دور الحكومات وكل مؤسساتها العدلية. ومن التحديات المباشرة، وقاصمة الظهر، عدم توافر العدد الكافي من الوسطاء الأكفاء وممن لهم الخبرات المطلوبة في هذا الخصوص لرفد هذه الصناعة الناشئة بصورة حديثة تأخذ من ماضيها وتتطلع لمستقبل أفضل، ويجب على المؤسسات المختصة في القطاعين العام والخاص بذل الجهود الكبيرة لتجاوز هذا الفراغ والعمل على سده ودعمه بتطوير الكفاءات المتنوعة ورفع مقدراتهم بالتدريب الفني والإجرائي والتدريب العام ثم التدريب المؤسسي مع العمل على تبادل الخبرات بين الأجيال لاكتساب الخبرات. وللاسترشاد، مثلا، بما يحدث بالنسبة للتحكيم المؤسسي في مراكز التحكيم المرموقة وما يتم تقديمه من برامج متنوعة متعددة ودعم لا محدود للتدريب المتواصل لمختلف التخصصات والقطاعات.
ومن التحديات الملموسة أيضا عدم وجود معايير واضحة لمؤهلات الوسطاء وكيف يتم تحديد هذه الكفاءات وما هي المعايير المطلوبة بالنسبة للخبرة وسنوات العمل وخلافه وهل يتم تحديد اختصاص قيمي مثلا أو اختصاص مكاني أو اختصاص فني مرتبط بالنزاع ووفق جداول مهنية محددة ومعترف بها ومن يعترف بها؟ واستنادا على ماذا؟ ونضيف للتحديات أيضا نقطة مهمة وحساسة تتمثل في عدم وجود معايير واضحة لمساءلة الوسطاء وما الضوابط المطلوبة في ظل عدم وجود قوانين تنظم الوساطة في غالبية الدول وعدم وجود الإجراءات الواضحة. ومن النقاط المهمة التي يجب تدارسها مثلا الإجراء المطلوب بشأن عدم إلزامية حضور الأطراف لجلسات الوساطة بالرغم من علمهم بذلك بل واختيارهم للوساطة كبديل لحسم النزاع، وكيفية الإخطارات ومتى تعتبر نافذة وما يترتب على ذلك... وغيرها من المشكلات الإجرائية. 
وقبل كل هذا نلاحظ عدم وجود الثقافة الكافية بين عامة الجمهور وقطاعات المجتمع المتعددة، وهذا تحد كبير قد يؤثر بصورة سلبية على تطور وانطلاق الوساطة وعلى الجهات المختصة النظر بجدية لعلاج هذه النقطة الحساسة والمؤثرة في نفس الوقت. ولابد من التنوير الكافي بأهمية وإيجابيات الوساطة كطوق نجاة في بعض المنازعات الخاصة أو تلك التي تؤثر على سلامة المجتمع. والوساطة في مثل هذه الأمور الجوهرية والمفصلية قد ترتقي إلى مرتبة الضرورة ويجب إعداد الأرضية اللازمة لها ويجب أن يقف الجميع خلفها. إصدار القانون لا يكفي لوحده، بل توفر الثقافة والقناعة أمرا ضروريا لدعم الوساطة؛ لتلعب دورها المهم في حسم المنازعات.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية