العدد 5531
الأربعاء 06 ديسمبر 2023
banner
نكبة القطاع وصراع الكلمات
الأربعاء 06 ديسمبر 2023


في عام 1998 المصادف للذكرى الخمسين للنكبة أصدر الروائي اللبناني إلياس خوري روايته الملحمية التاريخية الرائعة "باب الشمس"، ومع أن الكثير من النقٌاد اعتبرها تأريخاً للنكبة،فإن صاحب الرواية في الذكرى الخامسة والسبعين التي مرت هذا العام، صرّح بأنه لم يكن يقصد كل ذلك حينما خطط لكتابة الرواية، بل كان في ذهنه كتابة قصة حُب تجمع زوج فلسطيني وزوجته على اعتبار أن قصص الحُب عند العرب مخترعة وليست حقيقية على حد تعبيره . لكن تأثير خوري في التعبير عن مأساة تهجير الفلسطينيين خلال النكبة في هذه الرواية كان تأثيراً شديدًا في نفوسهم، حتى بدا  وكأنه واحداً منهم. وأشرت في مقال سابق لي (نُشر قي 6نوفمبر 2021)بأنه في عام 2014 ثمة مجموعة من الشباب الفلسطيني،وتحت تأثرهم الشديد بهذه الرواية' نصبوا خياماً على أرض قريبة من القدس من الأراضي التي خصصتها سلطات الاحتلال الصهيوني للاستيطان وأطلقوا عليها قرية "باب الشمس" فتأثر خوري بشدة حينها لهذه البادرة وطلب منهم أن يعتبروه واحداً من سكان القرية التي سرعان ما اقتلعتها أيضاً سلطات الاحتلال.
والحق ما كان لخوري أن يجسّد بقوة ألم ومعاناة الفلسطينيين لتهجيرهم من أراضيهم، لولا لم يكن قريباً مباشرة من نبضات آلامهم، حيث عمل الراوي في عمل صبور دؤوب على استنطاق أهالي المخيمات في لبنان ليحكوا له عن مآسيهم، سيما وإنه كان واحداً ممن حاربوا في صفوف الثورة الفلسطينية إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وعمل محرراً وباحثا في المؤسسات الثقافية الفلسطينية، فقد كان سكرتيراً لمجلة "شؤون فلسطينية" ومديراً لمجلة "الكرمل" قبل أن يُعاد إصدارها من داخل رام الله برئاسة تحرير المناضل الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد درويش بعد اتفاقية أوسلو .
 "باب الشمس" التي اُعتبرت واحدة من أفضل مئة رواية عربية والتي حولها المخرج المصري يسري نصر الله إلى عمل سينمائي جاءت لتدون روائياً قصة حُب الزوجين الفلسطينيين في سياق فصول مأساة تهجير الشعب الفلسطيني في نكبة 1948، في حين أن فصول نكبة أهالي القطاع التي مازال العالم بأسره شاهداً  على مجازرها الإبادية لما تكتمل بعد.
على أن إلياس الخوري في الذكرى الخمسين للنكبة في مقال له في مجلة "الطريق"  اللبنانية (عدد مايو/يونيو 1998) غداة إصدار الرواية ينبهنا إلى قضية لغوية أحسبها على درجة من الأهمية، ولا نعرف إلى أي مدى ستنسحب على النكبة الجارية فصولها في القطاع بعدما تكتمل،حيث مازال الإعلام الغربي يصف حرب الإبادة التي يشنها جيش الأحتلال الصهيوني على أهالي قطاع غزة بأنها الحرب على منظمة حماس الأرهابية! و إذ ينقل خوري عن الروائي التشيكي ميلان كونديرا بأن إحدى الخصائص التي تميز الثقافات وجود كلمات لا يمكن ترجمتها إلى لغات أخرى وإن عُرف جوهر معناها، لأنها تحمل في دلالاتها روح الثقافة واللغة، ولاسيما عندما تتداخل الثقافة بالسياسة، والقوة بالهيمنة. ويضرب خوري مثلاً بكلمة "ريّس" المصرية للدلالة على الرئيس جمال عبد الناصر في عهده، فالإعلام الغربي كان يتجاهل هذه الدلالة، كما يرفض ترجمة مفردة "فلاح" بدلالتها المحلية المصرية إلى اللغات الأُوروبية؛ باعتباره غير جدير بمساواته بالفلاح الأُوروبي. وإذ نجحت الدعاية الصهيونية في تحويل مفردة "الهولوكوست" إلى كلمة "شواء" بالعبرية في القاموس السياسي، يتساءل خوري : ماهو الحصاد العربي في صراع هذه الكلمات؟ فكلمة "فدائيين" التي برزت إبان تجربة الكفاح المسلح (والتي شملت عمليات خطف الطائرات المدنية) فشل العرب في فرض نفسها على القاموس السياسي العالمي، لكن كلمة "انتفاضة" والتي اعتمدت أساسا على المقاومة المدنية اضطر الإعلام الغربي لاعتمادها بعد فضيحة مشاهد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يكسّر عظام أطفال الانتفاضة الذين يقاومونه بالحجارة. وبعدها غداة الذكرى الخمسين فرضت كلمة "نكبة" نفسها في القاموس السياسي العالمي. وأشرنا غير مرة بأن هذه المفردة أطلقها المؤرخ القومي قسطنطين زريق، أما مفردة "النكسة" فقد أطلقها الصحفي محمد حسنين هيكل عند إعداده مسودة خطاب التنحي للرئيس عبد الناصر الذي ألقاه مساء الثامن من يونيو 1967. 
وإذ كان خوري في البداية متحفظاً عن مفردة "نكبة" باعتبار أن دلالتها قدرية(أي تماثل النكبات البيئية) فإنه اكتشف مع جمع من المثقفين في الموسم الثقافي المخصص للذكرى الخمسين للنكبة بأنها الأكثر دقة في التعبير عن مناخ الكارثة الذي خيّم على الشعب الفلسطيني 1948.وحسب خوري فإن الكاتب الفرنسي ادغار موران كان من أوائل من اعتمد هذه المفردة العربية في صحيفة لوموند بكتابتها بالفرنسية دون ترجمة؛ وذلك لخصوصيتها اللغوية وتعبيرها الأدق عن الكارثة الفلسطينية. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .