تتعدد المنازعات وتتعدد وسائل تسوية المنازعات. ولكل من وسائل تسوية المنازعات العديد من الإيجابيات ولا تخلو من بعض السلبيات. ومن ضمن وسائل تسوية المنازعات، نجد الوساطة، كأحد البدائل المتوفرة وقد ثبت نجاحها في عدة حالات وفشل بعضها. والوساطة من وسائل تسوية المنازعات المتبعة وتأخذ مجراها بين أطراف النزاع عبر “الوسيط”؛ سعيا للتوصل لاتفاق. والوساطة، كالصلح والتحكيم والتقاضي، من البدائل القانونية المتوفرة، حيث يتم الاعتماد عليها لإنهاء العديد من المنازعات وبعضها “بغيضة”، واللجوء للوساطة ظل مستمرا منذ مدة طويلة عبر حكماء المنطقة وأعيانها، ولكن الآن تغير الوضع، حيث أصبحت الوساطة مهنة وعلم وثقافة وممارسة لها ضوابط قانونية وأعراف وأخلاق مهنية. وكل أطراف العالم الآن مليئة بالوساطة والوسطاء؛ لحلحلة الخلافات السياسية والحدودية وغيرها من المنازعات.
الوساطة “ميديشين”، خاصة المهنية الفنية، تمثل وسيلة اختيارية وغير إجبارية يلجأ لها الأطراف وفق إرادتهم وطوعهم واختيارهم ودون إكراه أو إخبار؛ بغية التوصل لحل مناسب للنزاع بين الأشخاص المتنازعين. ويلعب الوسيط “ميدييتر” دوراً جوهرياً يتمثل في توفير الجو المناسب للمناقشات. ومن أبرز ما يقوم به الوسيط العمل على “تقريب الشقة” والتأثير في نفوس أطراف النزاع وتشجيعهم على البوح عما يختلج في دواخلهم من مشاعر وأفكار مشحونة ثم تبادل وجهات النظر، ومن ثم طرح الحلول الفعالة بكل سهولة دون تعقيدات. وللوصول لهذه المرحلة من تبادل الأفكار وتمازجها، لابد أن يتمتع الوسيط بالسمعة الطيبة إضافة للمهنية المطلقة مع الحرص على الأمانة والاستقلالية التامة وعدم التحيز لطرف. وبالطبع، فإن توفر الخبرة والمهنية والأمانة والثقافة لدى الوسيط سيكون لها دور كبير في إدارته وتتبعه لمجريات النقاش وطرح الأفكار بين الأطراف مع السيطرة الإدارية؛ حتى لا تخرج الأمور من إطارها. بالإضافة لهذا الدور، فإنه من الضروري أن يتم الاتفاق على الإجراءات التي ستسير عليها عملية الوساطة، وأن تكون هذه الإجراءات متفقة تماماً بموضوع النزاع، ثم يتم تحديد الطرق لإنهاء الخلاف، وفي جميع الأحوال يجب حصر البيانات والمعلومات الخاصة بالموضوع والالتزام بالسرية التامة وعدم نشر الموضوع لجهات أخرى؛ حتى يسير الموضوع في هدوء ودون تطفل أو مؤثرات خارجية.
يقوم الوسيط بلعب مجموعة من الأدوار المهمة، ويمكن إيجازها في فتح أبواب النقاش والعمل بمثابرة؛ حتى يتم التوصل لرأي صائب متفق عليه. والعمل بمثابرة جادة للتوصل لمجموعة من البدائل واختيار أنسبها لحل النزاع. ويجوز للوسيط، حسب الخطة المتفق عليها، عقد لقاءات منفصلة مع كل طرف. وهذه اللقاءات فنيا تسمى “كوكس”، حيث يقوم الوسيط بمتابعات مكوكية ونقل ما يدور مع كل طرف للطرف الآخر. وهذه المرحلة مهمة جدا ويستطيع الوسيط الموثوق به فعل الكثير في توضيح الخطوط العريضة التي يبنى عليها الاتفاق؛ حتى تتم التسوية النهائية. ومن الناحية الفنية، في خلال هذه المرحلة، يجوز للوسيط الاستعانة بالخبراء والفنيين لتحليل المعلومات والوثائق وتقديم الآراء المهنية الفنية.
وعند التوصل للاتفاق المناسب، يتم صياغة الوثيقة النهائية التي تتضمن فحوى المشكلة والحل الذي تم اختياره والاتفاق عليه. وكلما كانت وثيقة الاتفاق واضحة، فإنها تكون عاملا مساعدا مهما في الحل والبدء الفعلي في تنفيذ الاتفاق.
للوساطة عدة إيجابيات، منها منح الأطراف الفرصة للنقاش فيما بينهم وكذلك مع المختصين حتى الوصول للتسوية. وفي العديد من الحالات ينتج عن الوساطة أفضل الحلول لمصلحة الأطراف. وهناك نقطة مهمة من الناحية النفسية والسيكولوجية أن الوساطة تحاول الحفاظ على العلاقات التي تجمع بين الأطراف، وهذا بالطبع غير موجود عند أخذ الخصومة للمحاكم، حيث تستمر الخصومة والبغضاء حتى بعد نهايتها لعدة سنوات. وبالنسبة للتكاليف، نجد الوساطة أقل تكلفة مقارنة بالوسائل الأخرى التي تأخذ وقتا طويلا وجهدا أكبر.
هناك من يأخذ على الوساطة أنها غير ملزمة، ولكن نقول إنها مرحلة يتمكن خلالها الأطراف من التشاور عبر طرف مهني مستقل، وهذا سيجعلهم في وضع أكثر ملاءمة لحسم النزاع. وفي جميع الأحوال، هي محاولة اختيارية طوعية قد تأتي بكل الثمار أو جزء منها. وننصح بأنها قد تكون الأفضل في الكثير من الحالات وفقا لكل حالة على حدة.
مستشار وخبير قانوني