العدد 5519
الجمعة 24 نوفمبر 2023
banner
التعدي على الخصوصية والصراع بين أميركا والاتحاد الأوروبي
الجمعة 24 نوفمبر 2023

يلعب الإنترنت ووسائل ثورة تقنية المعلومات أدوارا أساسية في كل مناحي الحياة العصرية، وخاصة ما يتعلق بالمعاملات التجارية والأعمال الدولية، والشخصية أيضا. وكل هذا يتم في هدوء عبر الإنترنت ووسائل التقنية التي أصبحت متوفرة في كل مكان والجميع يتعامل بها بكل سهولة لا تتعدي “كبسة زر” في الجهاز. وهكذا، أصبح الجميع في مكان واحد، وأصبح العالم الكبير قرية صغيرة تصلها في زمن خارج الزمن التقليدي بل في لا زمن يقاس.

وعبر هذه التقنية، طوعنا الكثير من الممكن ومن الـ “لا” ممكن، وكل يوم، نصل لعوالم أرحب وأعمق بسبب التقنية، ولكن قد تأتي الرياح بعكس ما نرغب، وهناك جوانب سلبية لهذه الطفرة الإلكترونية التي قد نتضرر منها. ومن ضمن هذه السلبيات نجد، جرائم انتهاك الخصوصية والتعدي والتطفل والابتزاز والسرقة وغيرها من جرائم السايبر التي تتم في خفاء عبر الأثير، والتي يتعرض لها كل من يستخدم الإنترنت ووسائل التقنية.

هذا الانتهاك والتعدي على الخصوصية والتطفل والابتزاز، قد يتم لأي سبب وفي أي زمان وأي مكان، وقد يسبب مضايقات شخصية عديدة لا تحصى وقد يسبب خسائر معنوية ومادية كبيرة. وهذا، بكل أسف، قد يحدث لأي شخص ولأي شركة كبيرة أو صغيرة، وليس هناك ما يمنعها عنك طالما أنت تستخدم الإنترنت وإخوانه وأخواته، وحتى لو كنتم في بروج مشيدة ومحصنة. ويا للحسرة، لأن الحماية الوحيدة تكمن في الابتعاد التام عن التقنية واستخداماتها، فهل نستطيع ذلك؟ بالطبع لا.

ولمقابلة هذا الواقع المرير والتعامل معه، ظلت الدول تصدر القوانين وتعدل التشريعات لمحاولة مجاراة الواقع. وكذلك ظلت الشبكات والمنظمات الدولية في نشاط وتصدر المواثيق والمعاهدات ذات العلاقة. وكل هذا من أجل وضع الحدود لحماية الخصوصية، ولردع كل من يتجاوز هذه الحدود. ولكن الصراع المحتدم لحماية الخصوصية لن ينتهي لصالح طرف دون الآخر، بل سيستمر هذا الصراع للأزل وذلك بحكم الطبيعة البشرية ودواخل النفس الأمارة بالسوء. ما قادنا الآن للتطرق لهذا الموضوع القديم الجديد، الساخن الهامد، ذلك الحكم الذي أصدرته قبل فترة “محكمة العدالة الأوروبية العليا”، التي تمثل قمة السلطة القضائية للاتحاد الأوروبي. وهذا الحكم متعلق بالخصوصية المرتبطة بالإنترنت والتقنية الإلكترونية ومعيار هذه الخصوصية ومداها، حيث قضت المحكمة بأن “المعيار الأميركي” لحماية الخصوصية لا يرقي لمستوى “المعيار الأوروبي” الذي تنتهجه الدول الأوروبية عبر القوانين الصادرة من الاتحاد الأوروبي.

في الواقع، تقدم مواطن أوروبي بطلب للجهات المختصة ثم رفع دعوى أمام المحكمة في إيرلندا يطلب عدم السماح بنقل البيانات والمعلومات الخاصة به عبر الـ “فيسبوك إيرلندا” الي أميركا استنادا لمبدأ “المرفأ الآمن” المبرم بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. وقال المدعي إن الوضع في أميركا غير سليم ويعرض خصوصيته للمخاطر، وأن ما تم الكشف عنه بواسطة الـ “ويكيليكس” وفضائح “سنودن” يوضح عدم وجود الحماية الكافية للبيانات والمعلومات الشخصية في أميركا وأنها قد تكون عرضة للانتهاك والانكشاف وما يتبع ذلك من أضرار.

المدعي يستند إلى أن البيانات والمعلومات المنقولة لا تتمتع بالحماية الكافية في أميركا “لدرجة الاطمئنان للتعامل معها” في ظل “سرية تامة” و”بمعايير أمنية كافية ورادعة للمتطفلين” ومنتهكي الخصوصية، وهم كثر لا عدد لهم، وهو لا يقبل هذا الوضع، وبالطبع هذا من حق المدعي وكل أوروبي. ووصلت القضية إلى المحكمة العليا بإيرلندا، والتي بدورها أحالتها لمحكمة العدالة الأوربية العليا بصفتها صاحبة الاختصاص في تفسير قوانين الاتحاد الأوروبي، ولإصدار القرار الملزم للاتحاد الأوربي بخصوص معيار “المرفأ الآمن” المبرم مع الولايات المتحدة. وبعد سير الإجراءات، أصدرت محكمة العدالة الأوروبية العليا قرارها ضد معيار “المرفأ الآمن” الذي تم الاتفاق عليه، وحكمت بعدم صلاحيته وكفايته لأنه لا يوفر الحماية الكافية للخصوصية التي ينشدها “الطرف المقيم” في دول الاتحاد الأوروبي. وهذا القرار القوي ملزم للاتحاد الأوروبي وهكذا يسود حكم القانون على الجميع، وهكذا بسبب فرد واحد تقول المحكمة إن الاتفاق الذي يمثل الملايين من مختلف الشعوب غير صالح وغير كاف، وأنه يجب أن يتم إعادة النظر في “اتفاق قاري” بين عدة دول في قارات مختلفة. واستنادا لهذا القرار وانصياعا له قام الاتحاد الأوروبي بمراجعة موقفه من مبدأ “المرفأ الآمن” وتم تقديم مقترحات جديدة للولايات المتحدة وتجري المفاوضات لوضع البدائل التي تضمن حسن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولوضع أسس سليمة لتحقيق صيانة تامة للخصوصية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية