في عز مذابح الإبادة الجماعية المتوالية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق شعب قطاع غزة المدنيين، فإن ذلك لم يمنع ألمانيا من أن تحافظ على طقسها السنوي الذي سنته غداة الحرب العالمية الثانية للاحتفال بذكرى "ليلة الكريستال"، إشارة إلى أحداث مساء 9 نوفمبر 1938، ففي تلك الليلة وإثر مقتل السفير الألماني على يد شاب يهودي في باريس، قامت تشكيلات الحزب النازي العسكرية، ومن ضمنهم "جيش الإنقاذ" و"الشبيبة الهتلرية" بتحطيم وحرق المئات من مساكن اليهود ومحلاتهم التجارية ومعابدهم في ألمانيا، وقُتل العشرات منهم واعتقل الآلاف، وجاءت تسمية الليلة بالكريستال لكثرة ما خلّفته تلك الهجمات من شظايا زجاج غطت شوارع المدن الألمانية، واعتبر الحدث جزءاً من المحرقة "الهولوكوست"، مع أن وقائعها جرى معظمها إبان الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، والتي تصر المصادر الإسرائيلية - وتسايرها في ذلك المصادر الألمانية والغربية - على أن أعداد ضحاياها 6 ملايين يهودي. في حين لا توجد حتى اليوم إحصائية قاطعة - ولو على الوجه التقريبي - لذلك الرقم المهول، بل لا توجد على الأقل قائمة استقصائية افتراضية بأسماء نصفهم، وكأننا إزاء حدث تاريخي وقع في غابر الزمان السحيق. أكثر من ذلك فإنه لا يحق لأي باحث - مهما تسلح بأدوات المنهج العلمي المحايد - التشكيك في صحة الرقم حتى لو لم ينكر "الهولوكوست"!
موقع DW الألماني وصف "ليلة الكريستال" بأن أحداثها جرت "أمام أنظار الألمان والعالم"، في وقت كانت أهم وسائل الإعلام الجماهيرية مقتصرة على الراديو والتلفزيون غير المنتشرين عالمياً! وإذا كان يمكن تفهم أن تحافظ ألمانيا على طقسها السنوي في الاحتفال بليلة الكريستال لما تشكله تلك الليلة من وصمة عار في تاريخها الحديث، لعلها تجد في هذا الطقس وسيلة لتطهير عارها من تلك الجرائم المرتكبة بحق اليهود، أو مداواة لعقدة ذنب ما برحت تعذب ضميرها بوجه خاص وضمائر الدول الأوروبية عامةً، فإن ما لا يمكن تفهمه أن هذا الضمير الألماني لا ينتابه أي تأنيب فيما ترتكبه إسرائيل - بدعم من برلين - من مذابح في ليالي غزة وأنهرها الطويلة، منذ نحو شهر ونصف، في حين أن العالم يتابع مشاهدها الحية، ومشاهد قصف المستشفيات والملاجئ والمساجد.
وإذ وقف المستشار الألماني أولاف شولتز وسط كنيس (سبق الاعتداء عليه ليلة الكريستال) معتمراً القلنسوة اليهودية، ومعبراً عن غضبه وخجله الشديد لما ارتكبه الألمان تاريخياً بحق اليهود، ولما جرى أيضاً للكنيس واليهود في تلك الليلة، ومحذراً بعدم التسامح مع معاداتهم، فإنه لم ينبس ببنت شفة لما جرى لأهالي غزة، بل ولا للألمان من أُصول عربية وإسلامية. فوفقاً للمركز الألماني للأبحاث حول الهجرة والاندماج فإن 40 % من المسلمين يتعرضون للتمييز في حياتهم اليومية وفي تخليص معاملاتهم الإدارية الرسمية، وكذلك في أسلوب تعامل الشرطة معهم، ناهيك عن حظر برلين للمسيرات السلمية المؤيدة للقضية الفلسطينية.
ونحن نعلم جيداً أن ألمانيا ليست بريئة مما يتعرض له الشعب الفلسطيني من بطش ومجازر وتنكيل منذ عقود، فهي واحدة من أبرز الدول الغربية الداعمة لإسرائيل بكل أشكال الدعم المالي والحربي، وكان آخرها ما قدمته فور وقوع أحداث "طوفان الأقصى" حيث صدرت لها معدات عسكرية بنحو 303 ملايين يورو (323 مليون دولار). كما سبق أن صدرت لها معدات عسكرية بقيمة 32 مليون يورو في عام 2022. وبحسب وكالة الأنباء الألمانية التي نشرت هذه الأرقام، فإن ألمانيا تزود إسرائيل في المقام الأول بمكونات أنظمة الدفاع الجوي ومعدات الاتصالات. وألمانيا تعلم جيداً أن معوناتها العسكرية وظفتها إسرائيل في حروبها على الدول العربية وعلى الشعب الفلسطيني المقاوم لاحتلالها وطنه، وهي توظفها الآن في حربها الإبادية المتواصلة على قطاع غزة. وظلت ألمانيا - كما نعلم - تدفع على مدى 70 عاماً لإسرائيل تعويضات عن "الهولوكوست" وصلت إلى أكثر من 90 مليار دولار، وفق موقع "مونت كارلو"، وكأن الدولة العبرية بذلك هي الممثل والوكيل الحصري ليهود العالم أجمع. والمثير للسخرية أن التعويضات، وبدعم صريح من واشنطن، تشمل اليهود الذين ماتوا أو قُتلوا في حصار الجيش النازي لمدينة لينينغراد السوفياتية (بطرسبورغ حالياً) خلال الحرب، فكأنما هذه المدينة الروسية الكبرى التي كانت عاصمة للامبراطورية القيصرية المترامية الأطراف مقتصرة على السكان اليهود فقط!.
كاتب بحريني