العدد 5496
الأربعاء 01 نوفمبر 2023
banner
إيلون ماسك وأزمة أوروبا الحقيقية
الأربعاء 01 نوفمبر 2023

قبل بضعة أسابيع، نشر الفتى المبدع إيلون ماسك، والذي يبدو كظاهرة غريبة وعصية على الفهم، مقالا ملغوما، أشار فيه إلى أن القارة الأوروبية تكاد تكون مقبلة على حرب أهلية. ماسك أرجع هذه الحرب إلى تنامي الهجرات من العالم العربي تارة، واللاجئين من شمال إفريقيا ووسطها تارة أخرى، الأمر الذي أخل بالتوازنات الديمغرافية في داخل الدول الأوروبية القديمة.

وطرح ماسك يحملنا على الرجوع إلى قضية "الاستبدال الكبير"، والتي روج لها الكاتب الفرنسي "رونو كامي"، وجوهرها يقوم على فكرة إحلال وتبديل سكان أوروبيين بآخرين من دول غير أوروبية، وفي الوقت نفسه فإن قول ماسك بحرب أهلية، يعني نشوء وارتقاء حالة من التضاد الكامل مذهبيا وفكريا، آيديولوجيا وإبستمولوجيا، بين شعبين وجماعتين وطنيتين، داخل حدود الدولة الواحدة، وهو أمر خطير بالفعل. يعن لنا هنا أن نتساءل: "ما الحلقة المفقودة التي لم يتكلم عنها ماسك، وهل هي السبب الحقيقي في أزمة أوروبا الفعلية، وليس المهاجرين كما يصور للناس؟ الجواب يتمثل في كلمة واحدة.. "الشتاء الديموغرافي"، الذي يحل بأوروبا جراء عدم الرغبة في الزواج والإنجاب.

يبدو غالبية الشباب الأوروبي في العقود الأخيرة ميالا إلى عدم الارتباط بأطفال يمثلون بالنسبة لهم أصفادا ضد حركتهم وتنقلاتهم، بل ضد تغيير موجات حياتهم، لهذا فإن السبب الأساس في الأزمة يمكننا أن نعزيه إلى تلاشي قيم ثقافية مجتمعية في مقدمها مفهوم الأسرة وأهميتها بالنسبة للمجتمعات أول الأمر، وللإنسانية بشكل أوسع. أضحت غالبية المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، شديدة القرب من مفهوم الرواقيين الذين عرفتهم أثينا في أوج حضارتها، وقد كان شعار هؤلاء: "فلنأكل ولنشرب فإنا غدا نموت". ساعد على تمدد زمن "الشتاء الديموغرافي"، وبحسب البروفيسور "ألبان دينتر يممونت"، أستاذ علم الجغرافيا في جامعة نافارا في اسبانيا، ظهور مفاهيم مثل الثورة الجنسية، تلك التي تستلزم إضفاء الصفة الرسمية والموافقة الاجتماعية على بدائل لفكرة الأسرة المترابطة التقليدية.

هل بات التقدم العلمي سلاحا ذا حدين، فكما يغني البشرية، يمكن أن يفقرها أخلاقيا وإنسانيا؟

يبدو أن ذلك كذلك، لا سيما وأن البدائل غير الطبيعية للتكاثر البشري، بدأت تشغل حيزا مخالفا للنواميس الطبيعية، وهناك من يأمل في أشكال من التكاثر، بعيدا عن الوحدة الطبيعية بين الرجل والمرأة كشأن الله في خلقه.

هل من عواقب مباشرة للشتاء الديموغرافي الأوروبي في المدى المنظور؟

الجواب على صعيدين، إنسانوي ثقافوي أول الأمر، واقتصادي مالي في الدرجة الثانية.

يعني الشتاء الديموغرافي، اندثار الثقافة الأوروبية، مع خسارة صافية لملايين السكان الأوروبيين في النصف الأول من هذا القرن عطفا على شيخوخة مزعجة من السكان.

ثانيا، وعلى الجانب المالي سترتفع رسوم الضمان الاجتماعي، وستطفو على السطح اختلالات خطيرة في هياكل الإنتاج والاستهلاك. على أن الكارثة الأكبر بالنسبة للعالم برمته وليس للأوروبيين تتمثل في إمكانية الوصول إلى نقطة زمنية تصل فيها الحضارة الأوروبية التنويرية إلى الاضمحلال كما جرى لحضارات إنسانية سابقة رومانية ويونانية وفرعونية.

هل من خلاصة؟

المؤكد أنه لا يمكن تغيير الخلل العميق في واقع أوروبا الديموغرافي إلا من خلال تغيير عميق في الموقف تجاه واقع الشخص، الجنس، الزواج، الإنجاب، الأسرة، وفي نهاية المطاف، أمام الواقع الأعمق لما تستتبعه الحالة الإنسانية لجوهرها وأهدافها النهائية.

وفي كل الأحوال يبدو صوت البابا فرنسيس صيحة لتنبيه الباحثين عن هياكل أخرى مختلفة عن الأسرة التقليدية، ما يؤدي بالضرورة إلى تناقضات جوهرية في البنية التكتونية البشرية.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .