العدد 5468
الأربعاء 04 أكتوبر 2023
banner
عن طه حسين في ذكراه
الأربعاء 04 أكتوبر 2023


تمر هذه الأيام خمسة عقود بالتمام والكمال على رحيل عميد الأدب الدكتور طه حسين، والذي غادر عالم الأحياء في شهر أكتوبر من عام 1973، وبالتحديد في 28 من هذا الشهر، أي أنه رحل بعد أن اطمأن قلبه إلى نصر أكتوبر المجيد.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن الحديث عن الرجل الذي حرم من نور البصر، لكن الله حباه بنور البصيرة، ليحصل على ست درجات دكتوراه من كبريات جامعات العالم، وليجيد من اللغات الأجنبية ما لم يقدر لغيره من المبصرين أن يفعل. لا تبدو سيرة الدكتور طه حسين كسائر سير المبدعين، من المصريين والعرب، فالرجل وجد في زمن صعب، حيث الفقر والجهل والمرض، هذا المثلث الجهنمي القاتل تكاتف ضده، غير أن قوة إرادته دفعت به لترقي أعلى مراتب العلم، وأرفع مناصب الإدارة، وذلك ببلوغه وزيرا للمعارف. يعن لنا التساؤل: "هل غالبية - إن لم يكن كل - الأجيال التي ولدت بعد زمن ثورة يوليو 1953 مدينة لطه حسين؟ غالب الظن أن ذلك كذلك، فالرجل هو الذي دعا لأن يكون التعليم كالماء والهواء، بعد أن كان الأمر قاصرا على من يملكون المال، لاسيما في مراحل التعليم الجامعي والتي تحتاح للكثير من النفقات التي لم تقو عليها الأسر رقيقة الحال. 
تعددت وتنوعت معارك طه حسين، لاسيما معاركه مع التيارات الرجعية في مصر، تلك التي حاولت أن تعطل مسيرته التنويرية في ربوع المحروسة أول الأمر، وفي بقية أرجاء الوطن العربي تاليا. في مؤلفه الشيق "طه حسين.. تجديد ذكرى عميد الأدب العربي"، نقرأ للكاتب والناقد المصري المبدع "إيهاب الملاح"، عن معارك طه حسين بنوع خاص مع جماعات الإسلام السياسي، وكيف أن هذا التيار تحديدا ناصب العميد المفكر والمجدد العداء. الثابت بحسب صفحات الكتاب أن حقد الجماعات الظلامية التكفيرية المتعصبة على طه حسين كان بسبب أفكاره الإنسانية النبيلة، وفلسفته العقلية المنفحتة، ورؤيته الحضارية الرحبة والمشرقة للتراث العربي الإسلامي، والتي لا تنال إعجابهم ولا تروق لهم، ولأنه كان نصيرا مثابرا وداعيا إلى التمازج والتلاقح الثقافي بين الحضارات العالمية، ومدافعا عن حرية التعبير والتفكير التجديدي والديمقراطي، واحترام كرامة الإنسان، ومعتقده الديني، والمذهبي، وحريته الشخصية، الأمر الذي يتناقض مع الطرح الديني المتعصب والمنغلق، فكان لزاما أن يلقى جزاءه الرهيب على أيدي هؤلاء طيلة حياته وحتى بعد مماته.
أين كانت المشكلة الحقيقية للراديكاليين مع طه حسين؟
المؤكد أن الرجل صدمهم بتبحره وتمكنه من العربية وأسرارها، وإجادته المذهلة لها، وحافظته التي أعجزت كبراءهم فقرروا مطاردته، كمطاردة الساحرات في أوروبا القرون الوسطى.
كان أعداؤه يعجزون عن مقارعته الحجة بالحجة، والتصدي له، فقد كان عملاقا لا يطاول حتى ترأس مجمع اللغة العربية، أهم وأعرق المجامع اللغوية في العالم العربي كله.
كانوا يستعلون على أنصار الثقافة الحديثة والموالين لتيار التجديد بأن بضاعتهم من التراث العربي قليلة، وليسوا على اتصال به، فجاء طه حسين ليثبت لهم أنهم لا يعرفون علما حديثا ولا تراثا قديما، وأن اتصالهم بالتراث لا يعدو أن يكون اتصال تكرار واجترار، وحفظ وتلقين، أما هو فلا.
كان العميد طه حسين، يعرف بامتياز حدود وأبعاد هذا التراث، ودرسه وعيا وفهما، وأنتج معرفة معاصرة، فتحت الباب لمزيد من القراءات والإضاءات والكشوفات، ما أعاد النظر والبحث في هذا التراث كله، وفتح الباب من بعده لباحثين ومفكرين مصريين وعربا لإنتاج قراءاتهم العميقة لهذا التراث وإشكالياته.
ولعلنا نتساءل عن أنجع السبل للاحتفال بذكرى العميد؟
المؤكد عبر إحياء إرثه الفكري الذهبي في الحال والاستقبال.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية


 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .