العدد 5454
الأربعاء 20 سبتمبر 2023
banner
هل كان مندور" شيخ النقّاد"
الأربعاء 20 سبتمبر 2023

خلصنا في المرة الفائتة إلى أن صدمة طه حسين من عودة تلميذه الناقد الكبير محمد مندور من بعثته الدراسية إلى باريس التي قضى فيها تسع سنوات كاملة بدون نيله الدكتوراه، هي التي تفسر غضبه الشديد منه،لا سيما أن التحضير لها مع دراسته التمهيدية لنيل ليسانس الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية لا يستغرق منه-كما يُفترض- أكثر من أربع إلى خمس سنوات. وإذا كان الناقد رجاء النقاش قد رجّح سبب رجوعه إلى مصر بدون نيله الدكتوراه لوقوعه في أسر" شهوة المعرفة" في مدينة الأنوار التي وجد مندور ضالته فيها للاغتراف من مناهلها الوفيرة، بحيث انفلت من يده زمام الأمور في التنبه إلى خطورة التفريط في المتطلب الأساسي الذي اُبتعث من أجله، وقد ذكرنا أن الأديب والناقد الكبير لويس عوض الذي زامله في باريس قد شهد بأنه استفاد منه لما اغتنى به من زاد علمي وثقافي كبير في تلك المدينة. لكن العميد -للأسف الشديد- بلغ به الأمر في نوبة غضبه أن عارض تعيينه مدرساً معيداً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب،  وهو لما ينل الدكتوراه بعد، فما كان من أحمد أمين الذي كان عميداً للكلية إلا أن أسند إليه تدريس الفرنسية لبضع ساعات في قسم اللغة الفرنسية رأفةً بحاله.وحتى بعدما اُفتتحت جامعة الأسكندرية عام 1942 وترأسها طه حسين، فإنه عندما تقدم للتدريس فيها،عمِد حسين لتعيينه أستاذاً في الدرجة الرابعة!  وعندما نال الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى في جامعة فؤاد الأول( القاهرة الآن) فإن حسين لم يعترف بها، ورفض رفعه إلى الدرجة ( أ ) ما اضطره إلى ترك التدريس الجامعي نهائيا، والانتقال إلى مهنة الصحافة والكتابة الصحفية، وفيها عانى ما عانى من مرارات ومضايقات شديدة لا يعرف طعم علقمها إلا أهل المهنة. وفي هذا الوقت كان مندور يشن أشرس حملاته على المستعمِر الإنجليزي وأعوانه المتنفذين في مصر، سيما خلال حكومة صدقي باشا، واُعتقل 46 يوماً في زنزانة انفرادية، لكن المعتقل لم يفت في عضده، وظل من داخله يُدبج مقالاته الحماسية التي تُهرّب إلى الخارج.ويعتبر الناقد الراحل جابر عصفور أن سني عقد الأربعينيات هي أكثر سنوات العطاء في حياة مندور النضالية والنقدية والأدبية والثقافية، ففي خلالها كتب رسالته المتميزة  لنيل الدكتوراه، وتنقّل أستاذاً محاضراً بين جامعتي الأسكندرية والقاهرة، ثم استقال من الجامعة، ليتفرغ لإدارة العمل الصحفي والكتابة الصحفية، متنقلاً بين مجلتي الثقافة والرسالة، والأهرام، والمصري. وأصدر مجلة "البعث"، و افتتح له مكتباً للمحاماة وترشح للبرلمان، وتولى تحرير "صوت الأُمة" بعد سقوط حكومة صدقي،وواجه إغلاق أكثر الصحف والمجلات التي كتب فيها أو رأس تحريرها، وألّف كتباً مهمة في تاريخ النقد الحديث، وترجم كتابين عن تحديد منهجية البحث الأدبي.وختم أواخر العقد( 1949) كتابه المهم "في الأدب والنقد". 
ويمكن القول أن طه حسين نجح إلى حد كبير في تأسيس مدرسة نقدية أدبية تملك ميكانيزمات الديمومة، وكان جيل مندور ولويس عوض بمثابة الجيل المخضرم الذي عاصر جيل الآباء المؤسسين والذي كان من أبرز رواده طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني ومحمد حسين هيكل( وهو غير الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل) وهذا الجيل هو الذي وضع أُسس المدرسة النقدية الحديثة في الفترة ما بين ثورة 1919 وثورة 1952. 
وإذا كان مندور  من أبناء الجيل المخضرم الذين التزموا بمدرسة "الإشتراكية الواقعية"، فإنه رفض أن يكون هذا الالتزام على حساب القيم الجمالية والإبداعية في العمل الأدبي.وهذا ما أكده في دفاعه غير المباشر عن جيل الشباب(محمود العالم وأنيس عبد العظيم أنيس خصوصا ) الذين خاضوا معركة مع طه حسين وعباس العقاد حول "المدرسة الواقعية" في الأدب، ومع ذلك ورغم تنبهه لأهمية هذا البُعد الجمالي في العمل الأدبي، فإنه لم يتوان عن أن يخوض معركة مع أستاذه دفاعاً عن أدب الشباب من أنصار  "المدرسة الواقعية" رغم فهمهم لها بالمفهوم الستاليني .ومع أن العقاد من جيل الآباء الرواد المؤسسين للمدرسة النقدية الحديثة،  كطه حسين، فإن مندور لم يتوان أيضاً عن الاشتباك معه في معاركه النقدية، وسعى إلى تقويض أُسس المنهج النقدي عنده. كما خاض معه معركة مهمة حول الشعر الحر الذي كان العقّاد لا يعترف به وأنكر وجود أي موسيقى فيه، ورفض اعتباره شعراً،حتى أنه كان يسخر من قصائد الشعر الحر والتي كانت تُرسل إليه-كمقرر في المجلس الأعلى للفنون والآداب- فيعمد إلى إحالتها إلى لجنة النثر!  والغريب بأن هذه المعارك التي خاضها مندور مع العقاد انتهت بأن خلع عليه الأخير لقب "شيخ النقاد". وقد سار على خطاه في هذا النعت الذي نُعت به  عشرات النقاد والكتَاب الذين مجّدوه وتناولوا أعماله، فهل كان ذلك من قبيل مجاملة العقّاد لمندور، وهو ( العقاد) المعروف عنه شدة الاعتداد بنفسه حتى في المعارك التي خاضها عميد الأدب العربي طه حسين معه والذي يُعد "شيخ النقاد" بلا منازع في عصره؟ أم أن العقاد ياتُرى أراد أن يغيظ من طرف خفي العميد بإطلاق هذا اللقب على تلميذه مندور؟
وشاء القدر أن يتوفى العقاد ومندور خلال عامين من أواسط الستينيات قبل رحيل طه حسين (1973)  بنحو سبع أو ثمان سنوات، ورغم المعارك النقدية التي خاضها مندور مع العقاد، فإنه لم يتخل عن إنسانيته في احترامه والاعتراف به كواحد من كبار النقّاد من جيل أساتذته،فقد تعددت زياراته له في بيته أثناء مرضه الأخير حاملاً إليه باقات الزهور يومياً قبيل وفاته 1964. وعندما رحل مندور عن عالمنا 1965 رثاه أيضاً أُستاذه طه حسين، ولعله أحس بشيء من وخز الضمير لما عاناه تلميذه أشد المعاناة من تماديه في غضبه عليه. وقال عند حافة قبره بكلمات تتقطر حزناً : " كان مندور من أذكى تلاميذي في كلية الآداب وأنبههم ..." ثم أتم رثاءه بصوت مكلوم: إن الأُمة خسرت بوفاة مندور أديباً نابهاً، وناقداً ممتازاً من أبنائنا رحمه الله" .
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية