العدد 5447
الأربعاء 13 سبتمبر 2023
banner
ما سر غضب العميد من مندور؟
الأربعاء 13 سبتمبر 2023

كان الناقد المصري الراحل رجاء النقاش من أكثر الأدباء والنقّاد الذين تناولوا بإسهاب تحليلي سر غضب الدكتور طه حسين من تلميذه محمد مندور، وذلك كما جاء في مقالته الضافية تحت عنوان " عندما يغضب طه حسين" في مجلة" وجهات نظر" الشهرية القاهرية، عدد يوليو 2005، وهي مجلة ثقافية سياسية فكرية، بحجم التابليود، وقد نُشرت المقالة على أربع صفحات تشغل مقياس أربعة أعمدة من الصحف اليومية. وحكاية اختيار مندور كلية الآداب تتشابه مع اختيار سهير قلماوي لها، فكلاهما تمكن العميد من حرفه عن رغبته الأصلية، فالأول كانت رغبته الشديدة في أن يدرس الحقوق، لكن العميد الذي صادف أن اطّع على ما يتمتع به من موهبة أدبية فذة، تمكن بلباقته المعهودة وضغوطه الناعمة أن يقنعه يالالتحاق بكليتي الآداب والحقوق معاً، بحيث يحضر محاضرات صباحية في الحقوق ومسائية في الآداب، وقد نبغ الشاب في كلا التخصصين،ومن المفارقة أن جاء ترتيبه الأول لدى تخرجه في كلية الآداب ذات التخصصات التي لا تستهوية، فيما جاء ترتيبه الخامس لدى تخرجه في كلية الحقوق، والتي كان يطمح بشدة في الالتحاق بها. أما الطالبة  سهير قلماوي فلم يكن لديها من الأصل أي تأهل أو استعداد نفسي لدراسة الآداب، بل كانت تسكنها رغبة عارمة لدراسة الطب أسوة بوالدها. لكن هذا لم يحل دون أن يقنعها العميد ويحرفها بزاوية 180 درجة عن رغبتها في دراسة الطب،مستغلاً في ذلك ما تعرضت له من مشكلة إدارية عند تقديمها أوراقها للالتحاق بالطب، لكن قلماوي بعد أن استسلمت لضغوطه الأبوية المحرِجة، ووافقت على مضض،سرعان ما وجدت نفسها تعشق الآداب، بل ونبغت فيها أيما نبوغ.

وفي عام 1930 اُختير مندور لبعثة حكومية لنيل الدكتوراه في الآداب بجامعة السوربون بفرنسا، ورغم سقوطه في فحص النظر، فإن طه حسين تدخل بكل ثقله ليقنع محمد عيسى حلمي، وزير المعارف حينذاك، لتمرير بعثته؛ باعتباره طالبًا مُجداً ونابغاً في مجال تخصصه، ووافق الوزير بعد عرضه الموضوع على مجلس الوزراء الذي اقتنع بمبررات الوزير. وكان برنامج البعثة يتكون من شطرين : الأول يستوجب الحصول على ليسانس في الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية وفقهها المقارن، وكذلك حضور محاضرات للمستشرقين،والثاني يستوجب أن يُحضّر الطالب رسالة علمية  لنيل الدكتوراه في الأدب في مجال ما درسه، وكلا الشطرين متلازمين ومترابطين، لا مجال لفصل أحدهما عن الآخر ،  لكن الطالب مندور الذي أنجز الشطر الأول أخفق في استكمال  الشطر الثاني، فيما كان ينبغي إنجازهما معاً في مدة لا تتجاوز من أربع إلى خمس سنوات، لكن مندور قضى تسع سنوات كاملة في فرنسا دون أن ينجز سوى الجزء الأول فقط، وعاد إلى وطنه عام 1939 بخفي حنين دون نيل الدكتوراه، وهذا ما أضب العميد أشد الغضب  تجاهه،إذ كان يتوسم فيه ويعوّل عليه آمالاً عريضة ليتولى بعد عودته من فرنسا مسؤوليته الأكاديمية، كأستاذ جامعي متمكن في كلية الآداب، على نحو ما أضحت عليه تلميذته قلماوي بعدئذ . 

ويشبّه النقاش قصة مندور في إخفاقه الدراسي بباريس بحالة الأديب توفيق الحكيم الذي اُبتعث هو الآخر إليها- على نفقة أهله- لدراسة الحقوق ونيل الدكتوراه فيها، لكنه عاد إلى مصر متخصصاً في الأدب المسرحي والروائي،دون نيلها مخيباً بذلك آمال والده؛ لكرهه الشديد لدراسة المواد القانونية الجافة على حد تعبيره. والطريف أن أستاذ الأدب واللغة الإنجليزية الدكتور لويس عوض والذي زامل مندور في باريس وشهد باستفادته منه معرفياً، لما راكمه مندور من خبرة وثقافة ومعرفة أثناء وجوده في باريس، اعترف بفضله عليه : " الحق يُقال أنه لولا مندور كنت دخلت فرنسا حُماراً وخرجت منها حماراً"!

على أن النقّاش في روايته لحكاية غضب العميد من مندور اعتمد في الأساس على نص الحوار الذي أجراه الناقد فؤاد دوارة مع الأخير ، والذي يُعد من أنفس الحوارات القيّمة التي تناولت هذه القضية، 

 على أن النقّاش إذ يُخطّئ مندور لتهاونه في عدم الالتزام بمتطلبات نيل الدكتوراه، رغم ما اكتسبه في باريس من معارف وثقافات أدبية وفنية جمة، علاوةً على نيله الليسانس في الآداب واللغات المشار إليها آنفاً، فإنه يلوم العميد لقسوته وتماديه في غضبه على تلميذه مندور، إذ أخذ يتصدى لتوظيفه الجامعي في القاهرة مرة، وفي الإسكندرية معاً، على حد تعبير النقاش. ويمكننا  القول: لولا حدب الأستاذ  أحمد أمين عليه، حيث طلب منه التحضير للدكتوراه تحت إشرافه، لربما لم ينلها، سيما أن طه حسين رفض أن يكون عضواً في اللجنة التي ناقشت الرسالة.وفي تقديرنا أن رفض العميد نابع من اعتداده بمرتبته العلمية التي رأى أنها لا تليق به أن يكون عضواً في لجنة هو الأجدر بتشكيلها ورئاستها، لا بل أن طه حسين نفسه هو من أقنع الأستاذ أحمد أمين بالانتقال من الأزهر إلى الجامعة للتدريس في كلية الآداب، في وقت كانت الكلية تعاني عند بدايات تأسيسها من نقص لمدرسين في اللغة وآدابها . والحال أن مندور بعد نيله الدكتوراه اضطر للعمل في كتابة المقالات والدراسات النقدية الصحفية وتأليف الكتب وإلقاء المحاضرات الحرة. 

وقد يكون النقاش محقاً في ملامته للعميد؛ لقسوته على تلميذه مندور، لكن علينا أن نتفهم من جانب آخر ما شكّلته عودته من باريس بلا دكتوراه من صدمة كبيرة لأستاذه ، إذ كان طه حسين يعوّل عليه- كما أسلفنا- آمالاً عريضة لدراسة الأدب وتأهله جامعياً لتدريسه، زد على ذلك أن غضب العميد إنما يعكس دلالة بالغة الأهمية فيما تتميز به شخصيته من التزام وروح عالية المسؤولية تجاه مستقبل الجامعة وكلية الآداب تحديداً، ومستقبل التعليم في مصر عامةً. أما الدلالة الثانية التي تُفسر غضب طه حسين  من مندور، فلعلها تتمثل في رغبته العارمة المتسامية فوق الذات لجعل مسؤولية دراسة لغتنا العربية وتراثها  العظيم مسؤولية مشتركة تتشارك فيها أجيال متعاقبة من الأساتذة حملة الدكتوراه، سواء في عصره أو في العصور  اللاحقة،بعيداً عن الأنانية الفردية، أو الخوف والغيرة من منافسة الآخرين له في مكانته المتميزة الرفيعة والمشهود له فيها في كتابة دراسات في موضوعات أدبية شتى لم تتح الفرصة له لكتابتها، لا بل وجدناه يقترح على تلامذته اختيار نماذج منها كرسائل لنيل شهادات الماجستير أو الدكتوراه. 

وللأسف فإن ناقدنا الكبير الدكتور محمد مندور لم يعش أكثر من 58 عاماً، جراء مرض عضال ألم به حيث توفي عام 1965، أي قبل رحيل أستاذه طه حسين بثماني سنوات( ت 1937)، لكنه رثاه بعدئذ ورد إليه الاعتبار كواحد من أنبل وأعظم النقّاد والأدباء الذين أنجبتهم مصر في القرن العشرين، وقد نوّه العميد بمكانته السامقة في هذا المجال غير مرة في الحوارت الإعلامية التي اُجريت معه بعد وفاة مندور.. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية