العدد 5377
الأربعاء 05 يوليو 2023
banner
الخطاب الديني بين التراث والحداثة
الأربعاء 05 يوليو 2023

هذا حديث تتيحه نفحات العيد الطيبة، وفرصة الراحة من الأعباء العملية والحياتية اليومية، سيما أنه موصول بقضية من القضايا المثيرة للتفكير في عالمنا المعاصر مؤخرا، ونعني بها قضية الخطاب الديني وتحديثه، ومشاغبة الأيقونات الفكرية التي درجنا عليها، طوال مئات السنين. هل يعني تجديد الخطاب الديني قطيعة من نوع ما مع الماضي، أي الانسلاخ الكامل عن المنظومة الآبائية، التراثية، عالية وغالية القيمة في عالمنا العربي والإسلامي؟
ربما تكون الإشكالية الأكبر أمام دعاة التجديد الديني تتصل بإيجاد مسافة فاصلة بين منطلقات التجديد وركائزه، وبين الموروث الفكري والعقائدي، والفقهي والاجتماعي من جانب آخر، مسافة يتمكن من خلالها المجدد من استيعاب معقولية الموروث وتاريخيته، وبهذا التموقع الثنائي يتحقق تمثل من الخارج للتراث في تاريخيته، ثم عود إليه من الداخل قصد إحداث تغييرات فكرية وواقعية فيه.. ماذا يعني ذلك؟ دون تطويل ممل أو اختصار مخل نعني أن حديث التجديد ومهمة المجددين هي أن نأخذ من التراث جوهره لا قشوره، بقدر ما يطالب المحدثون بالاستفادة من عمق الحداثة لا مظاهرها الخارجية البراقة، أو انحرافاتها وشططها، وبالتالي لا يستبعد التراث، ولا تنتهي الحداثة، وعن طريق المزج بين العناصر الإيجابية لهذين القطبين الكبيرين سيتولد المستقبل.
غير أن حديث التجديد الديني هنا له مشروطيات لابد من تحقيقها، ودروب ما من بد أو مناص من تعبيدها، ولاحقاً السير على دروبها. أفضل من تناول هذه القضية بتفصيل غني، المفكر الفرنسي الجنسية السوري الأصل البروفيسور هاشم صالح، وعنده أن الخروج من حالة الأسر لآيديولوجيا التراث والسلف أمر يقتضي الفكاك من ظلام الأصوليات، والخوض في غمار ورحابة الإبسمتولوجيا، أي المعرفة والفهم، إلى رحابة التنوير في كل الأحايين وليس بعضها، وهذا ما لا يمكن إدراكه إلا من خلال التسليم بأمور ثلاثة: أولا: التسليم بانتهاء عصر الآيديولوجيات الاستلابية. ثانيا: اليقين بانتهاء زمن المراهقات الثورية والعاطفية. ثالثا: القطع بإنهاء الطفولات العقلية، والثورة على القيود الشكلانية الماضوية القروسطية. هل لهذه المشروطيات طريق آخر غير المثاقفة لا الانثقاف؟
يعني الانثقاف غلبة ثقافة بأكملها وتلبسها جسد الطرف المذعن ثقافياً وفكرياً، ذهنياً وروحياً، وليس هذا هو شأن المقصود من التجديد الديني، المطلوب هو حالة المثاقفة، "الحتمية التاريخية"، التي تقتصر على نقل الحضارة دون الاقتدار على المساهمة في صنعها.
يعني ذلك أن يكون انفتاح الخطاب التجديدي الإسلامي، طريقاً مزدوجاً للعطاء والأخذ، للمنافحة والملاقحة مع المغاير الحضاري، دون أن تكون هناك ضرورة حتمية للتفكير في تكفيره أو قتله، وعليه فإن فكر التجديد يخضع للمقولة الذهبية: "طرح القضايا الجوهرية والمصيرية ينبع من الذات وليس من الآخرين"، بمعنى أنه لابد لخطاب التجديد من أن يأتي كرد فعل لا يتأخر ولا يتلكأ لحاجة عربية إسلامية ماسة في الحال والاستقبال".
يحتاج الحديث عن إصلاح وتجديد الخطاب الديني إلى مؤلفات قائمة بذاتها، وليس إلى قراءة في سطور عابرة مهما تعمقت.
ويبقى المؤكد أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هيمنت فكرتان أساسيتان على "سوق الأفكار" في العالم العربي، هما الفكرة القومية والفكرة الإسلامية، وقد شكلت الفكرتان الأساس الجدلي أو "الديالكيتك الأبسمتولوجي" لمسألة الإصلاح والنهضة في العالم العربي، وجسدتا معا بشكل أو بآخر، الصراع حول "المشروع الحداثي" العربي الذي وصل الآن إلى نقطة مسدودة تستدعي مراجعة شاملة لهذا المشروع وبنيته وسردياته الحاكمة.
في هذا الإطار يمكن للمرء أن يتفهم لماذا من جديد يتناول البعض حديث تجديد الخطاب الديني.
وفي كل الأحوال يبقى الحديث عن تجديد الخطاب الديني أمرا جوهريا، يستخدم فيه العقل والنقل معا، وهو أيضا أمر كفيل بأن لا ندخل كما قال نزار قباني ذات مرة إلى.. عصر الجاهلية، عصر التوحش، والتخلف، والبشاعة والوضاعة، ندخل مرة أخرى عصور البربرية.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية