العدد 5244
الأربعاء 22 فبراير 2023
banner
سيد اللعبة وسلام الشرق الأوسط
الأربعاء 22 فبراير 2023

في كتابه المعنون بـ "عالم مستعار"، يقول بطريرك السياسة الأميركية، هنري كيسنجر: "الرجال لا يصبحون أساطير بما يعرفونه أو حتى بما يحققونه، لكن بالمهمات التي يأخذونها على عاتقهم". يستعير الدبلوماسي الأميركي الشهير مارتن إنديك، هذه العبارة، ليستهل بها تمهيده لكتابه العمدة "سيد اللعبة.. كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط"، والذي يقع في نحو سبعمئة صفحة من القطع الكبير.

هل كان الشرق الأوسط وعن حق بحاجة إلى رجل بوزن هنري كيسنجر، ليوقف الحرب بين العرب وإسرائيل، وليفتح الأبواب واسعة أمام مسارات السلام ومساقات الوئام بين الجانبين؟ ربما هناك ما لم يذكره السفير إنديك في عمله الفخم والكبير، عن كيسنجر، الرجل الذي غاص عميقا في دراساته وكتاباته عن ألمانيا ورجالات بروسيا العظماء، من أمثال بسمارك ومترنيخ، هو أنه لم تكن له علاقة البتة بالشرق الأوسط ولا بالعالم العربي، ولولا شاب باحث في العشرينات، وجده في مجلس العلاقات الخارجية، كان منقذه، ومن هيأ له قراءة واضحة عن أبجديات هذه المنطقة المجهولة والغامضة بالنسبة له، وقد كان ريتشارد هاس، الذي سيضحى فيما بعد منظرا غاية في الأهمية للسياسات الأميركية الخارجية.

ظهر كيسنجر في الساعات الأولى من حرب السادس من أكتوبر من عام 1973، وقد عرفته المنطقة بجولاته المكوكية بين القاهرة وتل أبيب، لضمان وقف الحرب، ومن ثم فك اشتباك الجيوش المصرية والإسرائيلية. على أن ما ميز كيسنجر بنوع خاص هو أن تحركاته في الشرق الأوسط وطوال السنوات الأربع التي سبقت زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، كانت مثيرة للإعجاب، وتنم عن رؤية استراتيجية وحنكة فائقة لكبير الدبلوماسيين الأميركيين، مستعينا في ذلك بمعرفته بالتاريخ ومهاراته الحدسية البديهية، وفهمه الدقيق لتوازن القوى المعقد في منطقة الشرق الأوسط، واستعداده لتحمل المخاطر والارتجال.

والشاهد أن الذين عندهم علم من سيرة هذا الرجل، والذي يعد أسطورة حقيقية في عالم السياسة الأميركية يدركون أولا أنه شاهد أمين على انتصار أكتوبر، وهناك اعترافات مسجلة ومذاعة له تفيد بذلك، غير أن الأهم في الأمر، أنه كان صاحب رؤية لما بعد الحرب، أي للسلام بنوع خاص، فهو الذي أعطى الجميع الانطباع بأهمية عدم تطوير الحرب، وعدم إراقة المزيد من الدماء، معتبرا أن الحرب وكما قال المنظر الألماني الأشهر، كلاوزفيتز.. أحد أشكال الدبلوماسية.

هل نجم كيسنجر لمع في سماوات الدبلوماسية الأميركية خاصة، والعالمية بشكل أوسع جراء الدور الذي لعبه على مسرح الشرق الأوسط؟

على الرغم من أنه حين جاء وقت توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، كان كيسنجر قد غادر البيت الأبيض كوزير لخارجية أميركا، إلا أن أحدا لا يستطيع إنكار الدور الماورائي الذي لعبه بجانب الرئيس السادات والذي وصفه في أحاديثه بـ "صديقي كيسنجر".

استطاع كيسنجر وعبر أدواته السياسية الميكافيلية الاستفادة من النفوذ المستمد من القوة الأميركية الهائلة للتعامل بحنكة ودهاء مع زعماء المنطقة المضطربة من أجل تحقيق السلام.

 وعلى الجانب الآخر، وهذا ما يقر به إنديك، فإن نجاح كيسنجر الذي أحرزه، يعود إلى براعة الأطراف المتحاورة معه، واستعدادهم للمجازفة على الأقل بنفس القدر من النجاح الناتج عن تألق جهوده.

كان كيسنجر قادرا على جمع المختلفين، وإيجاد نقاط ارتكاز، وتقديم بدائل، وعدم التمترس وراء أحادية الآراء، ومن هذا المنطلق نجح نجاحا باهرا في دوره كسيد للعبة في المنطقة.

هل يحتاج الفلسطينيون والإسرائيليون إلى كيسنجر جديد يجترح معجزة أخرى لإنهاء الخلاف بينهما؟.

كاتب مصري متخصص في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية