العدد 5221
الإثنين 30 يناير 2023
banner
مجـرد رأي كمال الذيب
كمال الذيب
العودة إلى الإبادة الثقافية
الإثنين 30 يناير 2023

بغضِ النَّظر عن التَّداعيات العسكريةِ والسياسيةِ المُوجعةِ للمواجهةِ الدَّائرةِ حاليًّا بين روسيا ودولِ النَّاتو على أرضِ أوكرانيا، فإنه من اللَّافتِ هذا الخلطُ المدهشُ بين المجرياتِ الدَّراماتيكيةِ للحربِ والجوانب الثّقافيةِ المتراكمةِ عبر الزَّمنِ، خلطًا لا يُبقي ولا يَذر للإنسانيةِ وللتَّسامحِ من وجودٍ.


فإذا كانت الحروبُ قد تتخذُ في بعضِ صورِها طابعَ الإبادةِ الماديةِ، فإنها قد تتجاوزُ ذلكَ إلى عمليةِ تطهير للجانبِ الثقافيِّ الإنسانيِّ والكنوز التي تُشَّكلُ إرثًا إنسانيًّا مٌشتركًا. من ذلك ما جرت ترجمته مؤخرًا في عددٍ من الدُّولِ الغربيةِ تُجاهَ الثَّقافةِ الرُّوسيةِ، قديمِها وحديثِها، فيما يُشبه “الإبادةَ الثَّقافيةَ” ضدَّ كلِّ ما هو روسيٍّ، من اللغة إلى الفنونِ والآدابِ والأفكارِ... مثل حظرِ كلِّ نشاطٍ ثقافيٍّ ينتمي إلى هذه الدائرةِ. إلى درجةِ منعِ عمدةِ ولايةِ شمالِ الرَّاين بألمانيا أوركسترا شبابيةً من عزفِ مقطوعاتٍ موسيقيةٍ لتشايكوفسكي، في محاولةٍ يائسةٍ لمحوِ أيِّ أثرٍ لهذه الثقافةِ أو الاحتفاءِ بها.


هذا مجردُ مثالٍ عن التَّأثيرِ المُفجعِ للحروبِ والصِّراعاتِ، يُؤشِّرُ إلى هَشَاشةِ المبادئِ الإنسانية، وفي مقدمتِها الحريةُ، حتى في الدُّولِ الدِّيمقراطيةِ، خاصةً مع طولِ الحربِ وتزايدِ فواجعها، ما يَمحُو قرونًا من التَّواصلِ الثَّقافيِّ والإنسانيِّ بين الحضاراتِ، وعقوداً من الجُهودِ الأمُمية من أجِلِ التَّوافق والتَّعايشِ والتَّسامح ِبين الدُّول والشُّعوبِ والثَّقافَات. فضلا عن كونهِ تجاوزًا لما نصّت عليهِ الصكوكُ الدوليةُ أو الإعلانُ العالميُّ للتَّنوعِ الثقافيِّ الذي تبنتهُ اليونسكو منذ العام 2001م، الذي أكدَ أهمِّيةِ الحفاظِ على التَّنوعِ الثَّقافيِّ وتعزيزِهِ، “باعتبارهِ مصدرًا للتَّجديدِ والثَّراءِ الإنسانيِّين”.


لا نتحدَّثُ هنا عن التَّطهيرِ الثَّقافيِّ الاستعماريِّ القديمِ، وما ينفذهُ المحتلون الجُددُ ضدّ الشُّعوبِ المغلوبةِ على أمرِها، من سطوٍ على ثقافتِهَا وسرقَتِها ومَسخها.. بل نتحدث عن منعِ النَّاسِ في دولٍ ديمقراطيةٍ متقدِّمةٍ، من التَّعاملِ مع ثقافةٍ أخرَى، وتجاهلِ الثَّقافةِ كفضاءٍ للإبداعِ والتواصلِ والجمالِ وكجزءٍ من التُّراثِ الإنسانيِّ. إنها ترجمةٌ ضحلةٌ للتَّطهير الذي يَتسرَّبُ إلى المُجتمعاتِ في عددٍ من البلدانِ، مُهدِّدًا الإرثَ ّ الثقافيّ الإنسانيَّ، بل ومهدّدًا لأوروبا كفضاءٍ للحرِّيةِ والتَّعايشِ والتَّنوعِ.

* كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية