العدد 5160
الأربعاء 30 نوفمبر 2022
banner
عن السلام كقيمة إنسانية جوهرية
الأربعاء 30 نوفمبر 2022

بعيدا عن الأخبار السيارة والحوادث الطيارة، وفيما يشبه استراحة المحارب، يعن لنا أن نتوقف عند مفهوم السلام كقيمة إنسانية جوهرية. في تلخيص أولي وجوهري لمفهوم السلام يمكن القول إنه الحالة المقابلة للحرب والعنف، وهو كذلك سيادة أجواء الطمأنينة والسكينة والهدوء، عوضا عن الخوف والقلق والاضطراب. والسلام هو الضد للخصام، والمفهوم المفارق للعنف اللفظي والجسدي سواء كان ذلك بين الأفراد أو الجماعات والدول.
والشاهد ان الأصل في كيان الإنسان هو السلام، غير أن القتال وجد على وجه الكرة الأرضية منذ أن كانت الأسرة البشرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولاحقا تطور المشهد إلى الصراع بين الإنسان والبيئة، وفقدت الأرض سلامها، وهناك مرويات تاريخية عن الأعمال العدائية التي ارتكبها الإنسان الأول في قارة أطلانطيس، ما أدى إلى ثورة الطبيعة فيها، فاحترقت وغرقت بمن عليها من البشر جزاء مخالفة النواميس الطبيعية لاحترام الإنسان لأخية الإنسان، عطفا على الأرض المستخلف فيها. منذ ذلك الوقت كان الإنسان يسعى للسلام، غير أنه عادة ما كان يوحل في الحرب، لهذا فإن حلم السلام الدولي تجلى في كتابات الآباء الأولين بصورة تنزع ناحية المدنية السماوية أكثر من محاولة إدراك مدنية الأرض العالمية التي تسودها قيم ومفاهيم العدالة والمساواة والإخاء. في هذا السياق يكتب أوغسطينوس الفيلسوف والمفكر الأمازيغي الأصل عبر كتابه أو بالأحرى موسوعته الخالدة مدينة الله De Civitate Dei، يقول إن الحرب حالة عرضية ستزول حين يستطيع مجتمع الإيمان أن يقهر عبدة الشيطان ويحقق السلام الأبدي. 
وفي ثنايا حديث أوغسطينوس عن القيم الأولية للسلام، يشتم المرء رائحة عزوفه عن القول بوجود تلك المنظومة القيمية على الأرض بالمرة، ويجزم بأن المدينة الأرضية لا تعرف السلم كونها مدينة الملذات والشرور، وأن حالة السلام المطلقة لن يجدها الإنسان الفاضل إلا في مدينة الله، التي هي النموذج الأمثل للإنسانية جمعاء. لماذا يذهب اوغسطينوس هذا المذهب، وهل في نموذج مدينة الله هذا مفتاح لمفهوم السلام وقيمه التي يجب أن تتوافر على الأرض حال أردنا انتشار سلام حقيقي لا براجماتية سياسية مؤقتة، أقرب إلى الهدنة، وهذا بالفعل الذي جرى بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وكاد يتكرر بشكل آخر خلال الحرب الباردة، ولا يزال يتكرر حول العالم، من خلال حروب إقليمية صغيرة ومتنوعة، وإن بات اليوم هناك هاجس بأنها ستتسع رقعتها بشكل أو بآخر لتهدد سلام العالم.
عند أوغسطينوس، مدينة الله تغلفها العناية الإلهية وتحيط بها من كل جانب. أما عن أبواب المدينة الكثيرة، فمفاتيحها معلقة في مبادئ العدل والخير، وفي اتساق دائم أبدي مع النظام والغاية والعمد المبنية عليها، والأسس المرتكزة إليها قوامها الفضيلة الخاصة.
هل هذه مدينة بشر أم ملائكة، وأين تتقاطع الرؤية الثيولوجية "اللاهوتية" عند أوغسطينوس مع الواقعية السياسية على الأرض؟ المؤكد أن حديث أوغسطينوس لم يكن يدور عن مدينة سماوية إلا مجازا، غير أن مدينة الله هي أرضية نموذجا ومنهاجا، لكن الفرق هو أن أهلها يحاكون عشيرة الملائكة، ويكون السلام باسطا أجنحته على ربوعها.
بوضوح لا ضبابية تشوبه، فإن الفكر الديني الطوباوي يمكن أن يجد له طريقا على الأرض من خلال المؤمنين به، وأن مدينة الله يمكن السعي إليها عبر نموذج يقدم فكرة السلم والخير والعدل على منظومة العنف والشر والظلم.
ومما لا شك فيه أنه وحتى قبل أن تتنزل الأديان على الأنبياء كانت الفطرة الطبيعية التي خلق الإنسان عليها تؤكد رفض القتل والاقتتال، وضرورة تعلية مفاهيم السلام.
ما أحوج عالمنا المعاصر إلى رؤى السلام وغياب الخصام، بهدف الوصول إلى مجتمع أكثر إنسانوية.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .