ثمة فارق بين "الأزمة" و"المأزق"، رغم شيوع استخدامهما في ثقافتنا العربية بمعنى واحد، فالأولى تعني حالة وقتية طارئة مهما امتدت، لكن قد تجد لها أفقاً لحل دائم أو مؤقت، أما "المأزق" فهو أعظم من "الأزمة" والتي قد تستفحل وتنتفي معها الحلول الترقيعية أو المسكنة، فتتحول عندئذ إلى مأزق انسداد كلي، لا أفق للخروج منه. وهكذا هي أزمة الحضارة الغربية في طورها الراهن، حيث أخذت تتحول بشكل متسارع، منذ ثلاثة عقود ونيف، إلى مأزق حقيقي تواجهه دول الغرب الرأسمالية، ما حمل شريحة من كبار المفكرين والمثقفين فيها على الإقرار به.
بيد أن مأزق الغرب الحضاري الراهن لا يعني بطء أو توقف تطوره الحضاري في المجالات العلمية والتقنية والتكنولوجية والصناعية، فهو في هذا المضمار في الصدارة بلا منازع، بل نعني مأزقاً ذا أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وآيديولوجية وأخلاقية وفلسفية متشابكة، ولا تنعكس هذه الأبعاد على شعوبه فحسب، بل شعوب العالم بأسرها. وهو أيضاً أضحى مأزقاً أكبر من أزماته الاقتصادية الرأسمالية الدورية المعهودة، وقد تعزز انكشاف تلك الأبعاد خلال أوج وباء كورونا، وكذلك خلال الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، حيث وقفت دول "الناتو"، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بكل ثقلها إلى جانب الأخيرة، ونفحتها بشتى أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والمالي والعسكري ضد الأولى.
ثمة شواهد عديدة على تحول أزمة الحضارية الغربية إلى "مأزق"، ومنها شواهد سياسية عديدة بعيدة المغزى، وقد برزت على وجه الخصوص خلال أزمتي "كوفيد 19" العالمية، والحرب الروسية الأوكرانية، إلا أننا سنكتفي هنا بتحليل خمسة مهمة منها.
الأول: انكشاف أنانية الرأسمالية الغربية الفظة، وعلى الأخص الأميركية، كما تجلت في عدم جاهزية دولها للتعامل مع كوارث الأوبئة الطارئة، كوباء كورونا، والذي اقترن أيضاً بلا مبالاتها بأعراضه ونتائجه بالغة الخطورة تجاه شعوبها، فضلاً عن تجردها من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه شعوب العالم التي فتك الوباء بالملايين من أبنائها، ناهيك عن عدم تورع شرائح اجتماعية عليا منها عن المتاجرة - داخلياً ودولياً - بأدوات ومستلزمات الوقاية من "الوباء"، وكذلك بأمصال التحصين ضده، حيث درت عليها هذه التجارة عشرات المليارات من الدولارات.
الثاني: مع أن أزمة كورونا العالمية لم تتبدد كليا بعد، بكل ما ألقته من ظلال قاتمة وأضرار فادحة - اقتصادية واجتماعية ونفسية وتربوية وتعليمية - انعكست على شعوب البلدان الغربية وبقية شعوب العالم الأخرى على السواء، إلا أن الأنظمة الغربية، لم تتورع عن تدفيع كل هذه الشعوب، سيما فئاتها الفقيرة والمعدمة، فواتير سياساتها الاقتصادية التي أفضت إلى الأزمة الراهنة، جراء قيود كورونا في العزل، ناهيك عن فواتير الحرب الباهظة التي تخوضها أوكرانيا ضد روسيا.
كما لم تتراجع الدول الكبرى الرأسمالية، عن مكابرتها في الإصرار على مواصلة دعمها لأوكرانيا، حتى لو كلفها ذلك زج شعوبها ذاتها في أزمة طاقة شديدة غير مسبوقة تاريخيا، وما فتئت تعاني منها!
الثالث: تآكل ثقة القاعدة العريضة من الناخبين بالدول الغربية في مرشحي الأحزاب التقليدية التي تتناوب دوريا على السلطة، وجلها من اليمين واليمين المتطرف، وفي عدادها أيضاً الأحزاب الشعبوية التي لا تخفي شعاراتها العنصرية المنافية لحقوق الإنسان، في وقت تمر فيه مجتمعات تلك الدول بأزمات اقتصادية ومعيشية متعددة، ولعل آخر حلقة من هذا المشهد السياسي الكارثي، يتمثل في نجاح جورجيا ميلوني عن حزب "أخوة إيطاليا" الفاشي، في استلام رئاسة الوزراء بموجب نتائج الانتخابات الإيطالية الأخيرة.
الرابع: لعل واحداً من مظاهر مأزق البلدان الرأسمالية يتجلى فيما تشهده أحزابه اليمينية التقليدية والمتناوبة على السلطة، من إيصال شخصيات قيادية على رأس الدولة والحكومة كفوءة قادرة على التحلي بقدر معقول من المسؤولية. ففي الولايات المتحدة - على سبيل المثال لا الحصر - فباستثناء باراك أوباما الذي فاز بالرئاسة لولايتين متتاليتين منذ عام 2009، فإن كل الرؤساء الذين جاءوا قبله وبعده ليسوا جديرين بالقيادة، بدءاً بـ: بيل كلينتون (بطل فضيحة مونيكا جيت) ومروراً بالموصوف بالغباء والضحالة السياسية جورج بوش الابن، والمهرج الملياردير دونالد ترامب، وانتهاء بالرئيس الحالي جو بايدن الذي ظهرت علامات الشيخوخة المبكرة ومنها كثرة النسيان ونسبة من أعراض الزهايمر. وهذا المأزق يشارك الولايات المتحدة فيه عدد من الدول الحليفة، لعل أبرزها بريطانيا وفرنسا.
الخامس: تلاشي تمسك الغرب بالقيم الليبرالية وشعاراتها عن الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى، ومن ثم انفصال الأقوال عن الأفعال عند التباهي بها منذ انبثاق الثورة الصناعية الأولى بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي القيم التي ما انفكت الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تتشدق بها، وينعكس هذا التلاشي داخلياً في ازدياد معدلات الجريمة والسطو والاغتصاب والسرقة والعنف والقتل وإدمان المخدرات. وبموازاة ذلك يجري تبني واعتماد الشذوذ الذي يُطلق عليه تأدباً "المثلية" كحق من حقوق الإنسان، ولا تخجل الدول الغربية عن التنديد بمنتهكي هذا "الحق" غير الحضاري المزعوم، رغم ما له من أضرار صحية جسيمة بالغة الخطورة على الإنسان، وسبق لعلماء الغرب وكبار أطبائه أن اعترفوا بها.