العدد 5124
الثلاثاء 25 أكتوبر 2022
banner
زيارة جديدة للقاهرة
الثلاثاء 25 أكتوبر 2022


ظلت الفترة التي أمضيتها في القاهرة، خلال إقامتي الدراسية الجامعية(1972- 1976) في حي "الدقي"  القريب من جامعة القاهرة، هي الأجمل في حياتي منذ أنتهاء  مرحلة المراهقة غداة تخرجي، وما برح هذا الحي العتيد عزيزاً على قلبي،عصياً على مفارقة مخيلتي،ولا أظنه سيفارقها ما أمتد لي من العمر بقية. كان " الدقي" واحداً من أجمل أحياء القاهرة الهادئة، إذ لم يكن مزدحما في زماننا بالسكان والعمارات الشاهقة، كما هو حاله الآن، كما لم تكن شوارعه مختنقة مرورياً حينئذ، وكانت أغلب مباني "الدقي" السكنية لا تتجاوز الأربعة أدوار، إن صح تقديري ولم تخني الذاكرة، و بالرغم مما طرأ على هذا الحي من تحولات سكنية وعمرانية ومرورية فاقمت من  الأزدحام فيه على أمتداد ما يقرب من 50 عاماً، ما زال هذا الحي تنازعني نفسي للإقامة فيه، بالسكن في أحد فنادقه خلال كل زياراتي السياحية للقاهرة، ولم تكن الفنادق مشيدة في الدقي زمن حياتنا الطلابية في النصف الأول من السبعينيات، اللهم إلا بشكل محدود. 
وخلال كل زياراتي السياحية للقاهرة فإني لا أشعر بالمتعة الحقيقية دون الأختلاط بناسها البسطاء، والتعرف ما أمكن على نماذج منهم، وتجاذب أطراف الحديث معهم، بدءاً من سواق التاكسي، ومروراً بالموظفين والعاملين والعاملات في الفندق الذي اُقيم فيه، وليس أنتهاءً برواد المقاهي الشعبية وعمال المطاعم، علاوة على نماذج أتنخلها من النخبة المثقفة المصرية ممن أصادفهم في الفعاليات الثقافية والفنية في ليالي القاهرة الجميلة.فأنت لا تستطيع التعرف على ثقافة أي شعب من خلال القراءة فقط، إذ لا بد لك من الأختلاط بعينات من مختلف فئاته لتعرف أحق المعرفة ثقافته وما قد تمر به من تطور و تحولات بمافيها عاداته، أو لنقل طابعه القومي بوجه عام. وفي كل تنقلاتي داخل القاهرة مازال "مترو الأنفاق" هو  وسيلة المواصلات الأثيرة عندي؛ وذلك تفادياً من الوقت الطويل الذي يمضيه سائق التاكسي في زحمة الشوارع، ولم يمنع ما تشهده عربات المترو  من أزدحام شديد يعج بالركاب في السنوات الأخيرة من تفضيلي إياه حتى يومنا هذا. أما عند زيارتي لمكتبات منطقة  "وسط البلد" ومحلاتها التجارية، وهو بند ثابت على أجندة كل زياراتي للقاهرة، فعادة ما أفضل الذهاب إليها مشياً من شارع التحرير بالدقي عابراً كوبري الجلاء وقصر النيل،كما لا تفوتني أيضاً في كل مرة زيارة "مكتبات سور الأزبكية" المتخصصة في بيع الكتب والمجلات القديمة. 
ومن الأجندات الثابتة في برنامج زياراتي للقاهرة، قضاء أغلب سهراتي الليلية في حفلات دار الأوبرا الثقافية والفنية شبه اليومية. وعادةً ما أحرص على أن تكون زياراتي السنوية لمصر متزامنة مع معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يُنظم في الفترة من أواخر يناير إلى أوائل فبراير. إلا أن ثمة ظروفاً خاصة حالت هذا العام دون زيارتي لها خلال المعرض الأخير، بيد أني عوضت ذلك بزيارتها بصحبة ابني هيثم أواخر مارس الماضي، ولم تكن في واقع الحال زيارة موفقة لعارض صحي طاريء ألم بابني طوال فترة إقامتنا، وأخيراً فقد أشتد بي الحنين الجارف مجدداً لزيارة "المحروسة" دون تحمل صبر الأنتظار حتى ميعاد معرض الكتاب في العام القادم ، فكان أن زرتها خلال الشهر الجاري مصطحباً معي هذه المرة ابني هيثم وابنتي يسرا، ومن حسن الطالع أن جو القاهرة طوال إقامتنا كان خريفياً رائعاً، ذا هواء منعش، نسماته الليلية إلى البرودة أقرب، وخصوصا على النيل، وهو النهر الذي يشق العاصمة المصرية إلى جزءين، محافظة القاهرة ومحافظة الجيزة. وإذ عُرف هذا النهر الخالد ب "هبة  مصر"، فلطالما  راق لي في دردشاتي مع الأصدقاء والمعارف المصريين، أن أطلق عليه "رئة القاهرة"، دونما أعرف عما إذا سبقني أحد في هذا الوصف، فلولاه لشعر سكان هذه المدينة المتفجرة سكانياً( نحو 25 مليوناً) باختناق أشد مما هم عليه. 
 عند وصولنا القاهرة تركت الحرية لأبني وابنتي لاختيار الأماكن السياحية التي يودان زيارتها، وأضفت إليها من جانبي ثلاثة أماكن سياحية ثقافية، هي متحف عميد الأديب العربي طه حسين بشارع الهرم، ومتحف عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بالجمالية( على مقربة من جامع الأزهر)، ومتحف الفنانة الكبيرة اُم كلثوم في جزيرة الروضة بالمنيل. وتفادياً من الاستطالة في هذا المقال، فإني سأرجئ الحديث عن متحفي محفوظ واُم كلثوم في الوقت الحاضر ، وسأبدأ بمتحف طه حسين الذي سيكون موضوع مقالي القادم.  

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية