خلصنا آنفاً إلى أن ذروة عبقرية طه حسين الصحفية إنما تجلت خلال توليه رئاسة تحرير مجلة "الكاتب المصري" الشهرية في الفترة 1945- 1947 حيث تمكن من جعلها تستقطب أعظم أقلام الأدباء والمفكرين والمثقفين، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: توفيق الحكيم وسهير القلماوي وحسين فوزي وعبد القادر القط وعزيز فهمي ولويس عوض وسليمان حزين، وحظيت بإقبال شريحة عريضة واسعة من القراء عليها، على تفاوت حظوظهم الثقافية ومستوياتهم الفكرية،ولم تكن ولادة هذه المجلة الأدبية الفكرية الشاملة التي لم تعمّر طويلاً ولادةً سهلة، إذا واجهت عواصف وأعاصير متعددة عشية الولادة، ثم أثناء انتظام أعدادها.كان العدد الأول للمجلة صدر في أكتوبر 1945،أي غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولما كانت نُذُر انفجار القضية الفلسطينية حينئذ وضياع فلسطين تُخيّم على أجواء الأقطار العربية،فإن أشنع فرية لاستهداف المجلة اتهامها بأنها صهيونية لمجرد أنها تصدر عن شركة طباعة ونشر يمتلكها سبعة يهود مصريين من عائلة آل هراري مع أنه لم يُعرف عن صلة أي منهم بمنظمات صهيونية!
وطبقاً للمقدمة التحليلية المطولة المعززة بهوامش مصادرها والتي خص بها الدكتور عبد العزيز شرف المجلد الأول من أعدادها التي بادرت الهيئة العامة للكتاب بإعادة إصدارها، فإنه زيد عدد صفحاتها من من 128 صفحة إلى 176 صفحة،أما من حيث المضمون فقد تميزت "الكاتب" بغنى محتويات موادها، وبحسن تبويب هذه المواد، ومن ذلك باب للمراجعات الثقافية تحت عنوان " الشهريات". وقد عني حسين في مجلته بنشر رسالة التنوير التي نذر نفسه لها، سواء من خلال كتاباته فيها أو كتابات زملائه، ووضع خطة منهجية محكمة لهذه المجلة لتظل مختلف موادها في الأدب والثقافة والسياسة والفكر تتمتع بالرصانة والموضوعية والعقلانية،قدر المستطاع،ولتكون أيضاً منفتحة على الفكر الإنساني بمختلف مشاربه، كما جعل صفحاتها منبراً للتحاور الإبداعي الخلاّق بين الثقافات. وكان رئيس التحرير، كما جاء في مقدمة د. شرف الآنفة الذكر، يولي أهمية للتفاعل مع قراء مجلته متبنيا شعاراً سبق أن كتبه: " القراء كل شيء بالقياس إلى الكتّاب، ويوشك ألا يكون الكتّاب شيئا بالقياس إلى القراء".ويلمّح طه حسين لما يكابده الكاتب من تعب ذهني ونفسي مُضنيين وهو يكتب مقاله.على أن القاريء في عالمنا العربي لايمكنه إرضاء قراءه جميعهم وفق مختلف أمزجتهم وأهوائهم السياسية. لكن يظل الكاتب في المقابل قائداً من قادة صناعة الرأي العام في المجتمع، يؤثر في شرائحه بدرجات متفاوتة.وكما جاء في مقدمة د.شرف فبقدر ما يكون هو "مرآة لقرائه" بقدر ما يكون "القراء مرآة"له. وعلى صفحات هذه المجلة نشر العميد ترجمته لقصة زاديج لفولتير، كما نشر العميد على حلقات مجموعته القصصية" "المعذبون في الأرض" وقصة " ما وراء النهر" وكلتاهما أثارتا السخط في دوائر الحكم عليه، فتكالبت الضغوط غير المباشرة على المجلة من مالية وخلافها،فيضطر ملاّك الشركة إلى إغلاقها بعد صدور العدد الأخير في سبتمبر 1948 بسبب إفلاسها، وكذلك إغلاق دار النشر التي تصدر عنها المجلة دون أن يكمل العميد "ما وراء النهر"، ودون أن يسمح له بنشر " المعذبون في الأرض" في مصر،ليضطر إلى إصدارها من المطبعة العصرية في مدينة صيدا اللبنانية في سبتمبر 1949،وبعد قيام ثورة يوليو 52 أعادت دار المعارف إصدارها للمرة الأولى داخل مصر عام 1961 ليتوالى بعدئذ إصدار طبعاتها، ولعل آخرها الطبعة الفاخرة التي أصدرتها الهيئة العامة للكتاب 2023 بمقدمة تحليلية جميلة للدكتور خير دومة.
ولعل أروع من عبّر عن الدور الاستثنائي المتفرد الذي قام به طه حسين في صناعة الصحافة، ما كتبه الدكتور علي سعد بعد شهور قليلة من رحيله في مجلة "الآداب" اللبنانية(آذار- مارس 1974)، وننقل هنا النص كما ورد في مقدمة الدكتور عبد العزيز شرف سالفة الذكر:
" ...أن تاريخ الفكر العربي الحديث قلما عرف مفكراً صحفياً جند مواهبه بمثل الحيوية و المضاء والاتساع التي كانت ل " طه حسين" لخدمة قضية بمثل هذا الالتصاق بقضية شعبه ومجتمعه، ذلك أن الصفة التي دفعت " بطه حسين" إلى عقول قرائه وأفئدتهم هي بقاؤه دائماً في " قلب الساحة التي كانت تتصارع فيها الأفكار والأقلام حول القضايا اللاهبة التي تهم المجتمع. واهتداؤه إلى ينابيع الثقافة العالمية بمعناها الأشمل والأعمق، وعمله في الدراسات والتحقيقات والبحوث الأكاديمية التي تتطلب الهدوء والأناة والموضوعية، وارتقاؤه أعلى المناصب الجامعية والسياسية، كل ذلك لم يمنع حضوره الدائم على كل الجهات التي كان ينبض فيها قلب وطنه وشعبه، ولا أنساه عادة النزول إلى ميادين العراك حول المبادئ والأفكار، حتى أواخر مراحل عمره، بمثل الاندفاع والحرارة التي كان يقبل فيها على العراك أيام كان طالباً في الأزهر أو في الجامعة المصرية".