العدد 5107
السبت 08 أكتوبر 2022
banner
روسيا والغرب... لمن الغلبة؟
السبت 08 أكتوبر 2022

قبل أيام فازت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل عن جدارة بجائزة الأمم المتحدة للاجئين لعام 2022 تقديراً لدورها في استضافة 1.2 مليون لاجئ سوري أواسط العقد الماضي على أراضي بلادها، في وقت رفضتهم أغلب البلدان الأوروبية، وبهذا لا تخلو الجائزة من دلالة إنسانية في نبذ العنصرية، سيما في وقتنا الراهن حيث تتكاثف في سماوات أكثر بلدان القارة غيوم التيارات الشعبوية واليمينية المعادية للمهاجرين. ومن سوء طالع فرص السلام في أوروبا، أن تنتهي ولاية ميركل في خريف العام الماضي، عشية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أوائل العام الجاري، بعد أن استمرت ولايتها 16 عاماً، إذ تمر القارة الآن بأخطر مراحل تاريخها الحديث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ذلك أن المستشارة ميركل - كما هو معلوم - كانت تتبنى سياسة خارجية وسطية رشيدة تراعي سمعة ومصالح بلادها، مقارنة بالمستشار الحالي الذي خلفها أولاف شولتس، والذي يبدو أكثر خضوعاً للضغوط الأميركية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، ويفتقر إلى حد أدنى من الاستقلالية التي تراعي مصالح بلاده في علاقتها الثنائية مع روسيا، والتي تضررت بشكل كبير اقتصادياً، خصوصا فيما يتعلق بإمداداتها من الطاقة والغاز الروسي. 
وإذا كانت الأصوات المعارضة للحرب في روسيا، كوسيلة لفرض ضمانات أمنها القومي المهدد من قِبل "الناتو" على حدودها مع دول أوروبا الشرقية، وبضمنها أوكرانيا، هي أصوات خافتة أو مخنوقة في ظل النظام الشمولي الشعبوي الحالي الذي شيّده رئيسها فلاديمير بوتين، فما أحوج أوروبا الديمقراطية اليوم، وعلى وجه الخصوص ألمانيا، إلى شخصية سلام محنكة من طراز الألماني الكسندر جليبوفيتش رار؛ ليلعب دور الوسيط أو "الرجل الإطفائي" للحرب المشتعلة، بالتعاون مع شخصيات دولية مسالمة معتدلة من أمثاله، فهو واحد من كبار علماء السياسة والعلاقات الدولية، وكان يحاضر في روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو من أكثر الأوروبيين الغربيين الملمين بالشؤون الروسية، ولعل آخر مؤلفاته المهمة "روسيا والغرب لمن الغلبة؟" الذي قام بترجمته إلى العربية محمد الجبالي، وصدر في 2019 عن "الهيئة العامة المصرية للكتاب" حيث يحلل فيه المؤلف بموضوعية ما يمكن اعتبارها العوامل والمقدمات التي أفضت بعدئذ إلى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة.
ومع أن الكتاب الذي يشغل بين دفتيه نحو 250 صفحة قد صدر قبيل اندلاع الحرب، إلا أنه جاء في توقيته المناسب، لفهم جذور الأزمة الروسية - الأوكرانية، وما مرت به من مراحل منذ انسلاخ أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي عشية تفككه مطلع التسعينيات، والدور الغربي في تأجيج مشاعر العداوة بين الشعبين الشقيقين الأوكراني والروسي، وصولا إلى أعتاب الحرب الراهنة بين البلدين. والكتاب موزع على 13 فصلاً على النحو التالي: أوروبا الغربية، تحت أنقاض الشيوعية، خارطة توزيع خارطة أوروبا، بوتين على حصانه، قصف بغداد، الحرب من أجل كييف، موقعة ميونيخ، معركتا بوخارست وجورجيا، محاولة لتحقيق المصالحة، الحروب العربية، صراع القيم، عودة إلى زمن الحرب، سوريا والتقسيم الجديد للعالم. وفي هذه الفصول يأخذنا الباحث في تحليل موضوعي إلى جذور الأزمة ومن ثم تطوراتها، وما يتحمله كلا الطرفين الروسي والأوكراني ومن خلفه الغرب من مسؤولية - بدرجات متفاوتة - في تفاقمها إلى حد الانفجار باندلاع الحرب. ولعل واحداً من الجوانب التي تجاهل الغرب خطورتها المساعي التي قامت بها موسكو للتكامل مع مجالها الحيوي السابق ممثلاً في فضاء حليفاته السابقة بأوروبا الشرقية، إذ سعى الغرب حثيثاً لعرقلة ذلك، ما دفع روسيا إلى ازدراء قواعد اللعبة التي سبق أن وافقت عليها، على حد تعبير الكاتب. والمشكلة تكمن في أن الغرب ظل، حتى بعد أن استردت روسيا شيئاً معتبراً من عافيتها وقوتها بعد مجيء بوتين للسلطة، ينظر إليها لا كدولة عظمى ندة، بل كدولة مستضعفة هي الأحوج إليه، لتكرس زعيمته الولايات المتحدة النظام الدولي أحادي القطبية، والمؤلف يؤكد على نقطة في غاية الأهمية أيضاً تتعلق بعدم فهم الغرب للقيم والثقافة التي تتفرد بها روسيا، والتي تتصادم حتماً مع القيم والثقافة الغربية، أياً تكن آيديولوجية النظام الذي يحكم روسيا، علماً أن الغرب يعلم جيداً أن معظم دول أوروبا الشرقية التي يجيشها ضد روسيا، ومن ضمنها أوكرانيا، والتي ضم أغلبها للناتو أبعد ما تكون اليوم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان! 
ومن المفارقات أن ألمانيا التي خرجت من حربين عالميتين مهزومة، بدلاً من أن تتعظ من دروسها التاريخية لتتبنى قدراً من السياسة المتوازنة بين طرفي الحرب، كما كان الحال - إلى حد ما - إبان ولاية المستشارة السابقة ميركل، وهي سياسة حفظت لألمانيا أمنها ومصالحها، فإنها تجازف اليوم بالانجرار خلف "الناتو" بزعامة الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا بالمال والأسلحة الثقيلة، على الرغم من عدم توحد شعبها في شطري البلاد الشرقي والغربي حول هذه السياسة الخطرة التي تتبعها، وهو ما اعترفت به في تقرير لها قناة DW الألمانية يوم الأربعاء الماضي!.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .