حتى عشية رحيل ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية في الثامن من سبتمبر الماضي،كانت إضرابات النقل والبريد والموانئ تعم بريطانيا، وقد وصفها الإعلام العالمي بالأضخم منذ عقود، ولاسيما في قطاع السكك الحديدية. لكن الإعلام العالمي نفسه،وانسياقاً مع الإعلام الأميركي، أثار جدلاً حول حقيقة رقم ما اُنفق على مراسم التشييع الطويلة، والتي أستمرت تغطيتها في القنوات البريطانية على مدار الساعة تقريباً طوال 11 يوماً،وبدت تلك المراسم من مواكب ومسيرات وداع، والتي حضرها مئات من قادة العالم من مايقرب مئتي دولة، والعشرات من الشخصيات الأجنبية، وكان موكب الجنازة يتكون من 4000 عسكري بلغ طوله أميالاً إلى قلعة وندسور حيث مثواها الأخير (وفق مراسم بعدئذ خاصة بالعائلة في كنيسة الملك جورج السادس) نقول: بدت لكل من تابعها وكأن شيئاً من النستولوجيا أو الحنين قد أستبد ببريطانيا لأحياء شعار " الأمبرطورية التي لا تغيب عنها الشمس". ووصفت "فايننشال تايمز" الحدث بأنه أكبر تجمع لقادة العالم وكبار الشخصيات منذ عقود، فيما وصفه السير ايفور روبرتس بأنه "أعظم انتصار دبلوماسي في التاريخ الحديث"! بينما نعتته مذيعة عربية في برنامج تريندينغ في بي بي سي" اللحظة التي توقف فيها التاريخ"! والمفارقة الساخرة في هذا الوصف المادح للحدث أن "التاريخ" بدا فعلاً خلال أحدى عشر يوماً مغيباً في وسائل الإعلام البريطانية، ما خلا ذلك "الحدث الأسطوري العظيم"، إذ أختفت كلياً أخبار الحروب،وأخطرها الروسية الأوكرانية التي كانت قِبلاً شغلها الشاغل، كما أختفت أنباء المجاعات والكوارث،وأخطرها كارثة فيضانات باكستان، هذا بخلاف الأوبئة ومظاهر تغير المناخ اليومية، ليقتصر الأمر فقط على تغطية حدث "الجنازة الأسطورية" ويُحرم المشاهد من متابعة أية أحداث اخرى مهما كانت درجة أهميتها!
فهل كانت بريطانيا كواحدة من أعرق الديمقراطيات العلمانية الغربية بحاجة إلى كل تلك البهرجة الإعلامية الضخمة باهظة التكاليف لتشييع ملكتها؟
وإذ صرحت وزيرة الثقافة ميشيل دونيلان لشبكة "سكاي نيوز" أن ما تم أنفاقه جرى بصورة جيدة، وأن "مملكتنا تستحق هذا الوداع" وأنها لاتعلم بالضبط "الرقم الدقيق" للتكاليف، فإن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية قدّرت ما اُنفق على مراسم الجنازة ب 6 ملايين جنيه استرليني، سيما وأن الجنازات الرسمية ممولة من المال العام، حيث تمنح وزارة الخزانة للعائلة "منحة سيادية" كان آخرها قبل وفاة الملكة قُدرت ب 100 مليون جنيه، كمخصصات مالية لتأدية واجبات ملكية رسمية، مثل الزيارات والرواتب والتدبير المنزلي، هذا بخلاف تغطية تكاليف الأمن وهي من البنود السرية، وفق الصحيفة الأمريكية نفسها، في حين تبلغ ثروة العائلة المالكة، حسب مجلة فوربس الأمريكية، 88 مليار دولار، وتُقدر ثروة الملكة الراحلة ب 350 مليون دولار، في وقت قفزت فيه أسعار المواد الغذائية؛ جراء التضحم وأزمة الطاقة، بمعدلات تفوق عما قبل أربعة عقود.
وبموازاة ذلك الجدل الإعلامي على الصعيدين المحلي والخارجي حول نفقات الجنازة، تجدد أيضاً الجدل عما إذا حان الوقت للإنفصال عن التاج البريطاني، والتحول إلى النظام الجمهوري الديمقراطي في أستراليا، إذ لم تتوان عضوة مجلس الشيوخ الاسترالي، مهرين فاروقي، عن اتهام بريطانيا بالامبراطورية العنصرية التي قامت على سرقة الشعوب وقتل الأبرياء، وأنها" غير حزينة" على رحيل ملكتها! أما ما جنته الأمبراطورية من نهب ثروات عشرات البلدان التي أستعمرتها، ومن بينها بلدان عربية، فحدث ولا حرج، وهي-كما فرنسا- لا يُنتظر منها الأعتراف بآثامها الأستعماريةالتاريخية ،ولابحقوق تلك البلدان التي أستقلت في التعويضات المالية التي لاتسقط بالتقادم. وما أن أنتهت تلك المراسم حتى عادت الإضرابات العمالية للسكك الحديد والبريد والمحامين بقوة أكبر مما كانت عليه قبل الوفاة، أحتجاجا على تدني الأجور،وارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ 40 سنة، والارتفاع الصاروخي- على حد تعبير الأندبندنت البريطانية-في تكاليف المعيشة وفواتير الطاقة. وحتى شبكة إذاعية عريقة تاريخيا مثل بي بي سي ألغت قسميها الفارسي والعربي الذي شارك في تغطية الحدث الأسطوري على مدار الساعة طوال أيام الحِداد، ما أن أنتهى الحدث الكبير؛ وذلك لتوفير 28مليون ونصف جنيه أسترليني، وألغاء 382 وظيفة، وسارع بنك إنجلترا المركزي من جهته في شراء سندات طويلة الأجل؛ لتهدئة الأسواق المالية؛ جراء تخفيضات ضريبية غير مسبوقة، ما دفع زعيم حزب العمال كير ستارمر على انتقاد هذه التخفيضات بشدة باعتبارها تصب في صالح المليارديرية والمليونيرية، فيما دان زميله برنهام، رئيس بلدية مانشستر، خطة الميزانية لأنها تدر المليارات للأكثر ثراء في البلاد، على حد تعبيره.
وإذ تعد هذه الأزمة الاقتصادية التي جرت في ظلها تلك "الجنازة الأسطورية" من أسوأ الأزمات التاريخية فإن الأصرار على التمسك بتقاليدها وطقوسها المكلفة ليعكس مظهراً من مظاهر تناقضات النظام الرأسمالي البريطاني!