باتت كل المؤشرات تقطع بأن الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ أكثر من سبعة شهور ستطوي سنة كاملة دون أن تضع أوزارها لتحصد المزيد من الأرواح والعمران من البلدين وتستنزف طاقاتهما، جراء حرب عبثية لا طائل منها، فالمنتصر منهما مهزوم، مع أن الشعبين يُفترض أنهما أكثر من خبر وذاق معنى الحروب وما تسببه من ويلات ومآس، إذ امتزجت دماؤهما معاً في الحرب العالمية الثانية لتحرير وطنهما السوفييتي المشترك من النازية، وقدما تضحيات هائلة. وأضحى واضحاً أن الطرفين دخلا معركة "تكسير العظم"، بالرهان على من يبدي أولاً تعبه من الحرب، ومن ثم يلوح على خجل بشيء من التنازلات؛ للعودة إلى مائدة المفاوضات بجدية أكبر من الجولات السابقة.
وكما نعلم فإن أوكرانيا لا تقاتل وحدها، إنما تقف من خلفها دول حلف الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تمدها بكل المال والعتاد وأحدث الأسلحة، بل وبالمستشارين العسكريين والمرتزقة، لكن في المقابل بات من المقطوع به أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينما أطلق على حربه "العملية العسكرية الخاصة" لم يكن يتوقع بأي حال من الأحوال أن تستمر إلى هذا المدى من الشهور الطويلة، لتقترب من عام كامل وربما أكثر، إنما أراد منها عملية محدودة - أشبه بالنزهة – لا تتجاوز شهراً على الأكثر.
وصحيح أن بوتين صرح مراراً عن مصاعب "النزهة" التي توهمها، بأن الغرب أو حلف الناتو قرر أن يحارب روسيا إلى آخر جندي أوكراني، على حد تعبيره، لكن من الحماقة بمكان إن لم يكن أخذ ذلك بعين الحسبان مقدماً قبل شن "عمليته الخاصة"، تماماً كما هي العقوبات المشددة المفروضة على بلاده التي قال إنها متوقعة، لكن بات واضحاً أنه تفاجأ بمداها إلى أبعد بكثير مما توقعه. ومن الجلي أيضاً أنه منذ بدايات الحرب كان يراهن على تكرار سيناريو أزمة الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا 1962، التي انتهت بتوافق من التنازلات المتبادلة بين الجانبين السوفييتي والأميركي، وهو رهان خاطئ ومغامر في آن واحد، ذلك أن البيئة السياسية الدولية لتلك الأزمة مختلفة كلياً عن البيئة السياسية الدولية الراهنة.
فلا روسيا اليوم بإمكانياتها وهيبتها هي الاتحاد السوفييتي القوة العظمى في النظام الدولي ثنائي القطبية السابق، ولا الولايات المتحدة التي كان يرأسها رئيس من أفضل رؤسائها في تاريخها وأكثرهم عقلانية وحكمةً (جون كيندي) هي الولايات المتحدة اليوم حيث يرأسها الرئيس العجوز جو بايدن الذي يصلح لأية مهمة إلا أن يكون رئيساً لدولة عظمى ظهرت عليها امارات الشيخوخة!
وما يزيد الوضع قتامة حول المصير الذي قد تنحو إليه هذه الحرب، في ظل التلويحات المغامرة باستخدام السلاح النووي، أن الأوضاع الدولية باتت معقدة وخطيرة للغاية على نحو غير مسبوق تاريخياً، سيما وأن تأثير قوى السلم والتحرر الوطني والديمقراطية آخذ في التراجع، لأسباب موضوعية وذاتية، فيما المناخ الشمولي واليميني يكاد يطبق على سماء القارة العجوز ويخنقها، وبالتالي ليس من قبيل المبالغة إذا ما قلنا إن العالم بات برمته على صفيح ساخن بانتظار "معجزة عقلانية" تنقذه مما هو عليه.