لم تكن معركة السفور والحجاب في عالمنا العربي والإسلامي وليدة اليوم،وإن أنتشر أرتداء الحجاب بصورة متسارعة في بلداننا العربية والإسلامية في أعقاب ثورة إيران 1979 والتي رغم مشاركة الشعب فيها، على أختلاف تعددياته السياسية والثقافية ،إلا أن الملالي المتشددين تمكنوا من أختطافها، ومن ثم الأستيلاء على السلطة وأحتكارها، بعد سلسلة من تصفيات جسدية وأغتيالات وتفجيرات جماعية، ناهيك عما جرى من اعدامات جماعية بمقتضى محاكمات ثورية صورية، كما شملت القوى الليبراليةوالقومبة واليسارية، ناهيك عن عدد من كبار المراجع المستنيرين الذين لم يجعلوا مسألة أرتداء الحجاب من عدمه معركة جهادية آنية ذات أولوية قصوى في أجندتهم السياسية، وإثر رحيل الإمام الخمينيي في 1989 آلت قمة السلطة ( ولاية الفقيه) منذ أكثر من 30 عاماً إلى المرشد الحالي السيد علي خامنئي، والذي بات يطلق عليه اليوم " الدكتاتور" في هتافات مختلف الاحتجاجات الشعبية المعيشية والسياسية الداعية بموته،علماً بأن مرجعيته المزعومة -كآية- كانت موضع تشكيك من قِبل مراجع كبار داخل إيران وخارجها؛لعدم بلوغه مرتبتها حوزوياً، وكانت من الأسباب التي حدت به إلى اضطهاد آية الله حسين منتظري، أحد كبار قادة الثورة والشخصية المنتظر لخلافة الخُميني، لولا أنه في خضم الصراع السياسي بين أجنحة النظام، عشية وفاة الخميني نفسه، تمكن الأكثر تأثيراً فيه من حاشيته الثقاة، من وغر صدره ضد منتظري وهو مريض في شهور حياته الأخيرة! كما جرى فرض الإقامة الجبرية على منتظري طوال عشرين عاما حتى مماته فيها كمداً وغماً 2009 دون أن يرف للمرشد جفناً.
وبالعودة إلى صلب موضوعنا عن المعركة التاريخية بين السفور والحجاب، فقد بدأت هذه المعركة في سنوات متقاربة من عشرينيات القرن الماضي، حيث شهدت مراكز النهوض الحضاري الثقافي العربي الثلاث: مصر والعراق وسوريا (قبل انفصال لبنان عنها) سجالات فكرية- دينية جسدت تلك المعركة الثقافية الحضارية، بين دعاة إلزام المرأة بارتداء الحجاب من جهة، ودعاة حقها في السفور من جهة اخرى، وتلك السجالات جرت بالتزامن تقريبا مع المعركة التي اُثيرت ضد كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" الذي كُفر بسببه؛ لتشكيكه في معظم ذلك الشعر، كما جرى تكفير الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب " الإسلام واُصول الحكم" وهو الكتاب الذي يمكننا القول الأساس -تاريخياً- في تقويض فكر "الإسلام السياسي"مبكراً، قبل ولادة هذا الفكر لاحقاً، ومن ثم نشوء ونشوء حركاته وجماعاته السياسية بدءاً من الأخوان المسلمين، وذلك للأستيلاء على السلطة بشتى الوسائل الممكنة، بما فيها العنف والأرهاب، ومن ثم تسويغ أحتكارها جبرياً بإسم الإسلام. وفي تلك الفترة التاريخية مثلت الشخصية المصرية العظيمة هدى شعراوي النموذج الأبرز كرائدة للحركة النسائية المصرية في معركة الدفاع عن حقوق المرأة التي انتهجت اعتدالاً وسطيا متأنٍ يراعي ظروف المرحلة وشروطها دون قفزات متسرعة إلى مجهول. وفي سوريا التاريخية، وتحديدًا لبنان، كان النموذج التاريخي النسائي الأبرز قد جسدته المثقفة والعبقرية المبدعة نظيرة زين الدين صاحبة كتابي " السفور والحجاب" و" الفتاة والشيوخ". وفي العراق فمع أن المعركة تفجرت على صفحات الجرائد في العشرينيات، إلا أنه من اللافت انتقالها إلى ميدان المبارزة الشعرية، في سابقة فريدة من نوعها، وكان من أشهر تلك المبارزات التاريخية الجميلة تلك التي دارت بين فحول شعراء ذلك الزمن، ففريق يمثل معسكر المتمسكين بالحجاب وإلزام كل النساء بلا استثناء بارتدائه من جهة، وفريق آخر يمثل معسكر مؤيدي حق المرأة في السفور وخلع الحجاب من جهة اخرى. وكان الشاعر الشعبي المعروف الملا عبود الكرخي على رأس المعسكر الأول، ونظم في ذلك قصائد هجائية لاذعة للسفور، فيما كان الشاعران الكبيران معروف الرصافي وجميل الزهاوي في طليعة المعسكر الثاني. ومع ذلك لم يتخلل تلك السجالات والمعارك التاريخية الثقافية والفكرية أي ارهاب فكري، أو هدر دم أحد من معسكر المنادين بحرية المرأة المعسكرين، كما هو سائد في زماننا، ليس في قضية المرأة وحدها، بل حتى في قضايا خلافية مع الإسلام السياسي في أي خروج عن رؤيتهم الأحادية وتفسيرهم لأحكام الشرع . ومع أن المرأة لم تحقق إلا أدنى القليل من حقوقها، طوال مسيرتها لانتزاع حقوقها، فعلى الأقل لا توجد دولة بيننا اليوم في عالمنا العربي والإسلامي تحرمها أبسط حقوقها الشخصية العادية- بإسم الدين- باجبارها على ارتداء الحجاب أو النقاب، سوى نظامي إيران وأفغانستان، بل أنك لتجد كلتا الثقافتين السفورية والحجابية متعايشتين في تآخ في البيت الواحد أو الأسرة الممتدة الواحدة، حتى داخل الأسر الحاكمة في كلا النظامين الجمهوري والملكي في عالمنا العربي والإسلامي .
وقد جاء ازهاق روح الشابة الإيرانية الكردية البريئة مهسا أميني( 22عاماً) قبل أيام على أيدي شرطة الأخلاق في إيران مأساوياً بكل ما للكلمة من معنى،رغم أن صورتها تظهرها بأنها كانت في احتشام وسطي معتدل في الملبس. لكن ما لا يفهمه نظام الملالي -للأسف الشديد- والذي أعتاد تجريب محاولاته الفاشلة لإشغال الناس بمثل هذه القضايا الهامشية عن الاحتجاجات على الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تأخذ بخناق السواد الأعظم من الشعب الإيراني أن مثل هذه المحاولات ثبت فشلها وولى زمانها منذ أمد بعيد. وعلى العكس من ذلك فلعل ما حدث سيكون دافعاً قوياً لجمهرة كبيرة من الفتيات والنساء على التمادي في التمرد وخرق قانون إلزام نساء ايران برمتهن بالحجاب ، وسيكون أستشهاد مهسا رمزاً ليس لحق المرأة في أرتداء الحجاب فحسب، بل رمزاً لمجمل حقوقها، ورفضاً للتنمر الرسمي الممنهج بحقها.علماً بأن البوادر الأولى لهذا الخرق ظهرت منذ عهد الرئيس علي رفسنجاني، وبتغاض خجول من قِبل قمة هرم النظام أزاء ما يسمى بوجوب أرتداء الحجاب بضوابطه( أي لزوم حجب أي شعرة أو خصلة فالتة متسللة إلى خارج الحجاب)، وأزداد هذا التغاضي، أوفُرض على "المرشد"، في عهد الرئيسين الإصلاحيين محمد خاتمي وحسن روحاني، أما الآن وفي ظل الرئيس المحافظ المتشدد ابراهيم رئيسي،صاحب السجل الأسود في أنتهاكات حقوق الإنسان، فقد أمعنت الفتيات والنساء في السفور احتجاجاً منهن على النظام السياسي القائم، وليس فقط على مصادرة حرياتهن الشخصية، وهكذا لا تكاد تخلو شوارع العاصمة طهران الرئيسية اليوم من مظاهر هذا الاحتجاج بشكل أوسع من السابق، وأمتدت تلك المظاهر الأحتجاجية إلى شوارع المدن الكبري، ومن بينها حتى المقدسة، كمشهد وقم، ومع ذلك فكلما وجد النظام نفسه في أزمة ما أنفك يختار عبثاً عينات عشوائية محدودة لضبط فتاة بريئة هنا وفتاة بريئة هناك بهدف إشغال الناس بتلك القضايا التافهة التي سئم منها سواد الشعب بمن فيهم حتى البسطاء المعدمين والمستضعفين !