قد تبقى مقولة كارل ماركس "التاريخ لا يعيد نفسه"، قابلة للتصديق لزمن طويل، غير أن ذلك لا يعني أن أحداث التاريخ لا تتكرر، ورغم إيمان الكثيرين بأن التاريخ يتقدم في مسار فوقي حلزوني، إلا أن البعض الآخر يكاد يقطع بأن سياقاته دائرية، ما يعني التكرار النمطي.. لماذا هذا المدخل الفلسفي؟
يمكن القطع بأن ما يجري في مياه المحيط الهادئ مؤخرا، يكاد يكون صورة مكررة للمنطقة خلال الحرب العالمية الثانية، وبنوع خاص القتال الذي جرى هناك بين قوات الحلفاء وقوات المحور، تلك التي كانت اليابان تمثلها في ذلك الوقت؟ اليوم تغيرت الأوضاع وتبدلت الطباع، وباتت اليابان الضلع الثالث في الرأسمالية العالمية، مع القارة الأوروبية، والولايات المتحدة الأميركية. تغير موقع روسيا كذلك على الخارطة الدولية، ولم تعد مساندة لدول الحلفاء والتي أضحت دول حلف الناتو بعد الحرب الكونية الثانية، بل باتت الند والضد للغرب سياسيا وآيديولوجيا، وصولا إلى مربع العسكرة القابل للاشتعال.
بجانب روسيا، بزغت الصين كنجم ساطع يشع ضوءه القطبي، إن جاز التعبير، على مياه الهادئ الشاسعة الواسعة، وهي تعلم أن العم سام يود أن تبقى سيادته وريادته متصلة من الأطلسي غربا إلى الهادئ شرقا. ليس سرا القول إن هناك رؤية صينية – روسية لا تخفى على أحد، تضع في اعتبارها المخاطر التي باتت تخيم على مجال شرق آسيا، لاسيما بعدما استطاعت القوى الغربية التقليدية، إقناع أستراليا بالدخول في قلب المعركة.
خلال كلمته الافتتاحية في مؤتمر موسكو للأمن الدولي، نهار الثلاثاء الفائت، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن الدول الغربية تسعى لمد "نظام شبيه بحلف شمال الأطلسي" إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. يعن لنا أن نتساءل: "هل الدعم الأميركي – الأوروبي لأوكرانيا، هو السبب الرئيس لتلك القناعة التي يؤمن بها بوتين؟ المؤكد أن الأسلحة الأميركية والبريطانية التي تدفقت إلى أوكرانيا ولا تزال، عطفا على ما قدمته بقية دول الناتو لـ "كييف"، جميعها ترسخ فكرة تخطيط الناتو للامتداد شرقا ناحية آسيا.
غير أن الأمر في حقيقته سابق لاشتعال الأزمة الأوكرانية، وإن كان موصولا بها بحال من الأحوال، فقد استهل الرئيس بايدن ولايته بإنشاء تحالفين، "أوكوس" مع أستراليا وبريطانيا، وملامحه ومعالمه عسكرية بالمطلق، وليس أدل على ذلك من صفقات الغواصات النووية المتقدمة من نوع، فيرجينيا، وما تحمله من صواريخ نووية، والتحالف الثاني، "كواد"، وفيه اليابان والهند، بجانب أستراليا واليابان.
أدركت روسيا الرسالة، فيما الصين كانت صاحبة الصوت الأعلى في الاعتراض، انطلاقا من إدراكها ما تمثله تلك التحالفات من مخاطر لوجستية عليها في الحال والاستقبال.
الصين من جهتها، لاسيما بعد الزيارة المثيرة للجدل من قبل رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، باتت متحفزة لمعركتها القادمة لا ريب مع الولايات المتحدة، بسبب موقفها من جزيرة تايوان المتنازع عليها.
تدرك بكين أن تايوان نقطة ارتكاز مهمة للحضور الأميركي في المحيط الهادئ، لهذا سوف تفعل المستحيل لحرمان تايبيه من الاستقلال مرة وإلى الأبد.
عطفا على ذلك تبدو المشاغبات اليابانية – الصينية، والتي تشعل أوارها مجموعة من الجزر المختلف عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سببا جديدا مضافا لإمكانية انطلاق رصاصة الحرب العالمية الثالثة من قلب المحيط الهادئ، والذي لن تكفي مياهه لإطفاء مواجهة نووية.
من على البعد تبدو معارك المحيط الهادئ قائمة وقادمة.. هل أخطأ ماركس إذا؟.