+A
A-

إشكالية العلاقة بين الذكورة والأنوثة في (ثوب النشل) لفاطمة النهام

علي العربيالكتابة في الزمن الصعب والمكان الوعر، والكتابة عن الزمان والمكان في الظروف الممكنة، أو الممتنعة إشكاليّة نفسيّة تؤرّق المبدع الملتزم، هناك بعض الكتاب، يبدعون حين يتخلّصون من الخوف، أو الخجل، ويفقهون عمق واقعهم المعيش، ومن هنا كانت القصة الناجحة قراءة ونقدا، هي التي ترصد بصدق الهموم اليوميّة للإنسان مهما كان موقعه الاجتماعي، فلكل إنسان همومه الخاصة، سواء أكانت نفسيّة أو اجتماعيّة أو ماديّة أو فكريّة موروثة أو خاصة، ولا يمكن لأيّ إنسان أن يحيا حياة مثاليّة خاليّة من الشوائب. 
 لعلّ من أهم المواضيع التي مازالت  للأسف تشغل الإنسان العربي من الخليج إلى مضيق جبل طارق، علاقة المرأة بالرجل، أبا أو زوجا أو أخا  أو حبيبا، أو لنقل الصراع بين مفهومي الذكورة والأنوثة، وعالجت قصة ثوب النشل هذه الإشكاليّة التي مازالت تشغل مجتمعنا العربي منذ عصور ما قبل الإسلام من زاوية ظاهرة الزواج القهري والعلاقة الزوجيّة غير المتكافئة عمريّا وعاطفيّا بين الزوجين (لولوة) و(بوعيسى) والعلاقة القائمة، ظلما   على مبدأ فوقية الزوج ودونيّة الزوجة  نظرا لسلطة التقاليد والأعراف وغلبة الموروث البالي وضعف الوازع الديني القويم كما هو حال رقيق الشغل (جاسم) وزوجته (حصة).           
مازال  الرجل العربيّ يفكّر بمنطق الاستئثار والولاية المطلقة على الأنثى وتلك ظاهرة قديمة، كانت لها  ظروفها ودوافعها  الخاصة آنذاك.  
​وبطلة القصة (لولوة) في قصة ثوب النشل ما هي إلا صورة منظورة وناطقة تعكس مستوى العقل العربي في نظرته إلى الأنثى والمرأة، وهي نظرة دونيّة  لم تتطوّر، و لم تتغيّر نحو الإيجاب، رغم كل المتغيّرات الحادثة في المنظومة الفكريّة والفلسفيّة و الدينيّة، فلولوة هي قبل كل شيء رمز  صارخ  لضحيّة مجتمع ذكوريّ، مصاب – اتجاه المرأة -  بجنون التفوّق والهيمنة والعظمة، سلبها إرادتها وقيّد حريّتها، و منحها نصف عقل و نصف عاطفة ونصف رأي ونصف كرامة، بالرغم من أن الدين الحنيف - الذي يتستّر وراءه الذكر- قد كلّفها تكليفا كاملا، وحمّلها مسؤوليتها كاملة، ومنحها حقوقها المعنويّة والماديّة دون نقصان، ولم يثبت العلم الحديث أنّ عقل المرأة، أقلّ قيمة وأنقص من عقل الذكر استيعابا وعطاء. 
 إنّ مكانة  الأنثى في  قصة  ثوب النشل لا تعدو كونها، آلة نسل وماكينة غسل وفرن طبخ (لقد تزوجته منذ خمسة عشر عاماً، وكانت ثمرة هذا الزواج أطفالها الستة. كان مهرها تافهاً، وحفلة زواجها لا تذكر)، فلولوة و صديقتها ، زوجة جاسم، تشتركان  في واقع واحد، وهو الزواج  القهريّ، المبكّر ( لم تكن ترغب بالزواج منه، لأنه يكبرها بعشرين عاماً)، دون مراعاة لعامل السنّ أو التوافق أو الرغبة، كما تتقاسمان  مصيرا واحدا، وهو التعدّد دون أسباب موضوعيّة أو غاية، ما عدا سعي الذكر للظفر بالمتعة، وهذا ما يؤكّده زوجها قائلا عندما تعترض (لولوة) على سلوك (جاسم): "شنو ليش.. زواج على سنة الله ورسوله .. المرة كبرت .. ما منها فايدة .. لا صحة .. ولا جمال".
إن الذكر في قصة  ثوب النشل  للقاصة فاطمة النهام، في صورة والدها وزوجها و صديقه (جاسم) فرد أنانيّ، يمارس القمع النفسي والعقاب المادي، عندما يعجز عن الإقناع بالحجة الموضوعيّة. فهي مازالت قوّة صفعة والدها على وجهها ماثلة في ذاكرتها، حين حاولت ممارسة بعضا من حريّة الرأي والاحتجاج و الاختيار والرفض أو القبول ( ...تتذكر جيداً صفعة والدها القوية التي هوت على وجهها). غير أنّها (أدركت حينها أنها ستتزوج هذا الفارس القادم .. شاءت أم أبت). 
 هي إذن إشكاليّة شائكة وعميقة  لمجتمع عربيّ، تغيّرت مظاهره الماديّة؛ انتقل من الخيمة إلى العمران الحديث، ومن ركوب قوافل الإبل إلى امتطاء أحدث أنواع  السيّارات والطائرات والبواخر، غير أنّ نظرته إلى المرأة، الأنثى لم تتغيّر في الضمير الفردي والجمعي، ومن نظرته الدونيّة للمرأة العربيّة بالرغم ما حقّقته هذه المرأة من إنجازات علميّة وتقنيّة واجتماعيّة راقيّة في شتّى مناحي الحياة. أليست هي  المجاهدة والمرابطة الشجاعة في ميادين المقاومة والعالمة الحاذقة والطبيبة الذكيّة والأستاذة المربيّة والمبدعة المتفرّدة  والسياسيّة الناجحة ؟ بلى، لقد أنجزت بعض النساء ما عجز عن إنجازه بعض الذكور . 
والمتأمّل لقصة  ثوب النشل اعتمادها على معايشة الفكرة وواقعيّة الطرح وبساطة الأسلوب واللغة، والاستغناء عن الخيال الفنّي، فالقصة تحيل القاريء إلى المدرسة الواقعيّة النقديّة وهذا ما أكسبها حسّا مأساويّا، وصدقا وتعاطفا وتجانسا ما بين المنطلق والغاية. 
 لقد حاولت القاصة  فاطمة النهام – كما حاول غيرها من الكتاب قبلها – أن تنكأ هذا الجرح في جبين المجتمع، وهو جرح لم يبرأ، رغم كل تعاقب الأزمان والأجيال، ورغم المتغيّرات الاجتماعيّة الحاصلة، وهي  محاولة هادفة  لقاصة مبدعة، تصبو إلى انتشال المرأة العربيّة من دونيّتها، و تخليصها من قبضة الذكر العربيّ، وتحريك العقل الباطن، و تفكيك عقد نفسيّة رسخت في أعماق هذا  الكائن الذكوريّ المتسلّط، و كأنّها من البديهيّات و المسلّمات المقدّسة . ( وفي لحظة ، نفضت جلابيتها ، لتجد خرق ثوب النشل تتساقط عند الشاطئ، لتسحبها الأمواج بعيداً، ومنها طارت أدراج الرياح). 
 لم يكن الصراع الدرامي ، بين لولوة وأبيها و بينها و بين زوجها، صراعا قويّا، لا بسبب ضعف شخصيّة بطلة القصة لولوة ، و إنّما بسبب قوّة الأعراف الاجتماعيّة وسلطتها المعنويّة، و هي أعراف قبليّة  مقدّسة، توجب على المرأة احترامها و طاعتها، و تحرّم عليها خرقها، و تجرّم انتهاكها، و تعاقب كل من تطاول عليها لهذا الأسباب، ظهرت  لنا البطلة و كأنّها مستسلمة لقدرها، و إرادة أبيها و سلطة زوجها.
 و مهما كان موقف القاريء أكان  متعاطفا مع زوجة بوعيسى لولوة وزوجة جاسم حصة، أو كان متحاملا عليهما بحجة أنّ المرأة مادامت في عصمة زوجها، فعليها السمع والطاعة، فإنّ قصة ثوب النشل، هي صرخة أنثويّة صادقة، و إدانة قويّة للسلوك الذكوري الشاذ لأنّ العلاقة الزوجيّة قائمة على المودة والرحمة والقبول لا على الإكراه والقوّة. 
إنّ الدعوة إلى تحرّر الأنثى العربيّة من الخوف والاضطهاد الذكوري، لا يعني بتاتا اتّباع الأنثى الغربيّة، وتقليدها في سلوكها وعلاقاتها الاجتماعيّة، بل هي دعوة إلى بناء منظومة أنثويّة عربيّة، إسلامية لا غربيّة متوحشة، مشوهة الروح سافرة الجسد، و لا  آمة شرقيّة منزوعة العاطفة والحقوق الفطريّة ، مكبّلة الفكر و القلب. 
 اتّسمت نهاية القصة بدفقة تفاؤليّة لأنّ تمزيق ثوب النشل والتخلّص منه يرمز إلى استشراف قويّ نحو التغيير الإيجابي، و هي تفتيت لعقدة الولاء المطلق للذكر، و الاستسلام للواقع السوداويّ المفروض.   
 إنّ الإبداع الأدبي والفنّي لا يطرح الحلول، و لا يقدّم البدائل و لكنّه قبس يوقظ المشاعر والعواطف الراكدة، ولعلّ قصة ​ ثوب النشل  للقاصة فاطمة النهام قد أمطرت غيثا  نافعا على الأرض اليباب.