نهار الجمعة الماضي، وفي كلمته أمام المنتدى الاقتصادي الذي عقد في مدينة سان بطرسبرغ التاريخية، عاصمة روسيا القديمة، بدا وكأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يضع العالم أمام حقائق جديدة، ويفتح الآفاق على ما يمكن أن نسميه عالم ما بعد سان بطرسبرغ، وحقائق ما وراء العملية الروسية في أوكرانيا.
يلفت النظر أول الأمر ذلك الثبات النفسي الذي ظهر عليه القيصر، الأمر الذي يبطل كل شائعات الحرب النفسية الغربية، من إصابته بمرض خطير، وصولا إلى وفاته، وأن من يقوم بدوره مجرد ممثل على مسرح الأحداث. ظهر بوتين بمثابة من ينطق التاريخ ويمنطقه، وربما في نظر الكثير من شعوب الأرض، جاء بالبشرى التي طال انتظارها حول نهاية زمن العالم الأحادي، وأن المحاولات المضنية لاستعادة الماضي لا أمل منها، فالعالم يتغير، وقديمه يمضي حكما.
وجه بوتين رسالتين إلى العالم الغربي بنوع خاص، الأولى حول بلاده وشعبها، قوته وتماسكه، تاريخه الذي يتجاوز ألف عام، وحضارته السلافية ذات الجذور، والتفاف الروس من حوله، وهي لفتة واضح القصد من ورائها، بمعنى بعث رسالة للذين يراهنون على الانقسام الروسي الداخلي وكيف أنهم يعيشون في عالم الأوهام لا الحقائق. أما الرسالة الثانية، فتتعلق بالوضع الاقتصادي في روسيا، وعنده أن هدف العقوبات كان إسقاط الاقتصاد الروسي، لكن ذلك لم يحدث، ومرد ذلك وحدة صف الشعب الروسي، الذي أفشل تخمينات الاقتصاديين الأميركيين بنوع خاص، أولئك الذين راهنوا على أن الدولار سيتجاوز مئتي روبل، فإذ به يهبط إلى ما دون الستين.
على الجانب السياسي بلور بوتين رؤية باتت الأحداث تؤكدها يوما تلو الآخر، وهي أنها "ليست رسولة السماء للأرض"، فمنذ نهاية الحرب الباردة في أواخر ثمانينات القرن المنصرم، باتت تتصرف على أنها مبعوثة العناية الإلهية، وسيدة قيصر، غير أنه وخلال ثلاثة عقود، أثبتت المغامرات سيئة السمعة التي خاضتها أنها تدافع عن وهم آيديولوجي يسمى الديمقراطية. لم يكن للقيصر أن يهمل أوضاع الاتحاد الأوروبي، وقد أشار إلى ما أكده نفر كثير من المراقبين الدوليين، أي فقدانه استقلالية القرار في مواجهة الضغوطات الأميركية، وبات قادته عرضة للإملاءات الخارجية، هذا بعدما كان الأوروبيون قاب قوسين أو أدنى من بلورة طرح أوراسي، يمد مظلة بطول وعرض وعمق وارتفاع القارتين الآسيوية والأوروبية، وربما أكد بطريق غير مباشر، نجاح الأميركيين في وضع العصا في دواليب العلاقات الروسية الأوروبية.
بوتين لفت النظر إلى أن أحادية التفكير كلفت العالم خسائر كبيرة على كل الأصعدة، وفي مقدمها إشكالية الأمن الغذائي العالمي، وكيف أن الولايات المتحدة الأميركية هي أول الخاسرين، فبعدما كانت المورد الأساسي للكثير من السلع الغذائية، وكانت نموذجا لكثير من الدول، أصبحت الآن مستوردا أكثر منها مصدرا.
هل كانت حرب أوكرانيا انعطافة مثيرة في القرن الحادي والعشرين؟
أغلب الظن إن لم تكن كذلك من الناحية العسكرية، وهي بالفعل على هذا النحو، فإنها ستشكل نقطة تحول على صعيد مسارات ومساقات الاقتصاد العالمي، والتفكير فيما بعد نظام بريتون وودز، والنظر إلى الدولار الأميركي بوصفه الحاكم الأوحد ماليا، والبحث في طرائق أخرى لتوازنات أممية، تنهي التفكير الرأسمالي الغربي، وغالبا هذا ما سيحدث إذا نجح الطرح الروسي – الصيني الخاص بتحالف ما أسميناه، البريكس بلس.
رسالة بوتين للغرب يمكن تلخيصها في كلمات بسيطة.. الروسوفوبيا لا تفيد.. والعالم يحتاج تعاونا لا حروبا، أما التشارع والتنازع فلا يفيد.