ذات مرة تحدث بطريرك السياسة الأميركية هنري كيسنجر بالقول، إن هناك نوعين من الثورات، ثورات ديمقراطية، وأخرى تاريخية، هل كانت الثورات المزيفة التي ضربت دول عدة في شمال إفريقيا، ومنها ليبيا تحديدا، من النوع الثاني تحديدا، لاسيما أنها ثورات لا تورث إلا الدمار والمرار، وتفتح الأبواب ومن أسف واسعة لتفكيك الدول وتفخيخ الشعوب اجتماعيا وعقديا وربما عرقيا؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك قولا وفعلا، والحال يغني عن السؤال، فها هي الجماهيرية الليبية، تعيش وبعد 11 عاما من الثورة الزائفة، حالة من الاهتراء المجتمعي، والصراع الداخلي، ناهيك عن أنها لا تزال في مرمى أهداف واستراتيجيات غير وطنية وغير خلاقة مرة وإلى الأبد. والشاهد أنه منذ سقوط نظام القذافي، عقدت عشرات المؤتمرات الدولية، بعضها برعاية أممية من قبل الأمم المتحدة، وبعضها الآخر ظللتها دول غربية، يشك المرء في حسن نواياها، لاسيما أنها كانت ضمن أسباب انهيار ليبيا الموحدة.
ولعل المواجهات المسلحة الدامية التي لم تنقطع، وآخرها ما جرى في طرابلس الأيام القليلة الماضية، تنبئنا بأن هناك خللا تكتونيا، إن جاز القول، أي خللا هيكليا في بنية ليبيا غير القادرة حتى الساعة على النهوض من الكبوة التي تعيشها.
يعن لنا أن نتساءل مخلصين التساؤل والبحث عن الجواب: "ما الذي يجري في الداخل الليبي، وإلى أين يمضي؟".. المؤكد أننا بحاجة إلى أن نسال أكبر عدد ممكن من الأسئلة، وفي الحالة الليبية بنوع خاص، ذلك أنه في كثير من الأحيان يكون السؤال الجيد أكثر إفادة من الإجابات الناقصة.
بداية يمكن القطع بأن المجتمع الدولي مهموم بل محموم بأجواء الصراع الروسي - الأوكراني، والذي يمكن أن يتحول عند لحظة بعينها من سخونة الرؤوس، إلى مواجهة عالمية، لهذا فإن القول إن الأمم المتحدة ستسعى لاستنقاذ الليبيين من وهدتهم أمر يجانبه الصواب.
الأمر الآخر هو أن تلك الثورة المزيفة، أظهرت صراعا الكل يعلم به، بين جماعات الإسلام السياسي، والذي تفرعت عنه عبر قرن خلى، كافة أنواع الجماعات الراديكالية العنيفة، والتي ملأت الشرق الأوسط في العقود الأخيرة، وتحديدا منذ سبعينات القرن الماضي، نارا ومرارا ودمارا، هذا من جهة، وجماعات الأدلجة السياسية، هناك حيث تحت جلد كل آيديولوجي متطرف من نوع آخر، إن لم يكن إرهابيا مسيسا بشكل أو بآخر، يؤمن بالعنف أكثر من إيمانه بأدوات العمل السياسي التقليدية.
والثابت أنه بين هؤلاء وأولئك، ضاع الوطن الليبي، ووجد أصحاب المصالح لهم منافذ لتحقيق مآربهم البعيدة كل البعد عن صالح الأجيال الليبية في الحال أو الاستقبال.
تحولت ليبيا إلى ساحة خلفية لتصفية حسابات الأقطاب الكبار، وملعب للأمم المتخاصمة، لهذا تمضي حروب الوكالة يوما تلو الآخر، ومن غير أمل في أن تتوقف عما قريب.
الصراع في ليبيا صراع قوى دولية متضادة، بعضها يسعى للوجود اللوجستي، لتحقيق ما عجز عن تحقيقه خلال زمن الربيع العربي المغشوش والمزيف، والبعض الآخر يسعى لموارد ليبيا الطبيعية لاسيما النفط والغاز، وفريق ثالث ينظر إلى التراب الوطني الليبي بوصفه نقطة انطلاق وقاعدة لتحقيق اختراقات لاسيما في القارة الأفريقية، بعضها عسكري وآخر اقتصادي.
هل نتجاوز الحقيقية إن قلنا إن الليبيين بتفككهم وصراعاتهم يساعدون الآخر على عودة ليبيا إلى عناصرها الثلاثة السابقة طرابلس إلى الغرب، برقة إلى الشرق، وفزان في الجنوب؟
هذا ما لا نتمناه، وإن كان واردا بالفعل.