العدد 4938
الجمعة 22 أبريل 2022
banner
د. جمال عبدالعظيم
د. جمال عبدالعظيم
إبراهيم الترزي
الجمعة 22 أبريل 2022

كان لقبه الرسمي إبراهيم الترزي، أما لقب المودة أبو خليل، وحين اقترب عتبات الخمسين أضحى ينادونه الحاج إبراهيم على الرغم من أنه لم يحج بيت الله الذي تاقت نفسه لزيارته طوال عمره. 
فمه لا تفارقه الابتسامة، ذكاء في عينيه اللامعتين، لسانه ينطق حلو الكلام، رافقته منذ طفولتي ارتبطت به ارتباط الفرع بالجذع، كان العمود الذي يرتفع عليه كثير من أبناء القرية، قدم نموذجا للقدوة يندر أن تجده في حاملي شهادات جامعية على الرغم أنه لم يكمل الابتدائية.
 كان له فضل دخولي المدرسه أنا وكثيرين مثلي.. تقدم هو بأوراقي، رافقني في طابور صباح اليوم الأول وانتظر حتى انتهت كل الحصص، خرجت شارد الذهن، عالم يختلف عن عالم اللعب الذي اعتدت عليه، رافقني إلى البيت وهو مسترسل فى وصف أناقة الزي المدرسي الذي حاكه لي بنفسه ذاكرا أهمية التعليم وحاكيا سيَر المتفوقين الذين بات لهم مستقبل عظيم بفضل التعليم، أسلوبه الشيق جعلني أنتبه والصمت يحدوني، رافعا عيني صوبه، منصتا لحديثه، أشعر أنه يقول شيئا مهما لكني لا أدركه بحكم سني.
عرف بمساعدته للقريب والبعيد، فما من تلميذ يحتاج مساعده في دروسه إلا ويجد إبراهيم الترزي نابغا في اللغة العربية والحساب وأحيانا يتطوع لحل الواجبات بخطه الجميل، وما من عرس يتم إلا و تجده شاهدا أول على الوثيقة وما من متوفى إلا وتجده حاملا نعشه آخذا عزاءه وأمورا أخرى أكثر من ذلك كوصفة طبية أو استشارة قانونية أو صلح بين متخاصمين. 
 منحه الله ثقافة شعبية واسعة وقدرة كبيرة على الإقناع وحبا في عمل الخير. 
سولت لي نفسي اختبار ثقافته أكثر من مرة، ولكني في كل مرة أشعر أن صفحات الحياة أعمق من صفحات الكتاب، تعلمت منه أسلوبه في الطرح وقدرته على الإقناع وتقمصت طريقته فى محاضرتي الجامعية ولا أحد يعرف أنه أسلوب إبراهيم الترزي ولا عجب فقد اقتبس الخليل بن أحمد أوزان الشعر العربي من النحاسين في بغداد واستلهم جراحين العظام فكرة المسامير لعلاج الكسور من حداد بريطاني.
كان يؤثر الآخرين عليه حتى وإن ظلم نفسه، ففي الثمانينات سافر للعمل في العراق وعاد بما رزقه الله ليجدد محله ويعيد بناء بيت أسرته ويحتفظ بما تبقى لزواجه تحدث مع أمه عن فتاة كان يسعى للارتباط بها منذ سنين حال دونها المتطلبات المالية فوعدته أمه بالذهاب لأهلها مساء الغد وفي نهاية الجلسة حدثته عن أخيه الأكبر السيد الذي طالت خطبته وباتت مهددة بالانفصال، وأملها أن تزوجهما الاثنين قبل الرحيل، كأي أم تأمل الاطمئنان على مستقبل أبنائها، ويفاجئ أبو خليل الجميع في اليوم التالي بزيارة بيت عروس السيد مقدما مهر أخيه رغم أنه يعلم أن هذا الفعل سيؤجل زواجه هو حتى إشعار آخر.
كان رمضان موسمه السنوي، عمل دائم، كل زبائنه تملأهم البهجة بالكسوة الجديدة قبل إشراقة شمس العيد، كانت لياليه الرمضانية ممتعة، وقصصه فيها لا يملها السامعون لما يتمتع به من حبكة في السرد وانسيابية في تدفق الأحداث. 
كثيرون من شباب القرية يستحضرون سحورهم لتناوله مع أبو خليل في محله الذي يتجمع فيه أصحاب الياقات البيضاء، منهم أمين صقر وشريف خليفة ولبيب العدوي ووسيم المرسي، وكلهم صاروا أصحاب مكانة مرموقة، بعدها يهرولون لصلاة الفجر خلف الشيخ محمد أبو حلاوة، فلاح بسيط لا يقرأ ولا يكتب، أكرمه الله بحفظ كتابه وتلاوة فيها خشوع وقوة ودعاء يعلو بك إلى عالم آخر.. يخشى علماء أزهريون أن يتقدموا لإمامة المصلين في حضرته. 
 رحل أبو خليل وهو على أعتاب الخمسين تاركا أربعة أبناء أودع الله فيهم بركته، بعد أن قدم نموذجا فريدا للقدوة في أفعاله وأخلاقه نفتقده في زمن جحد فيه كثيرون كل القيم الإنسانية، فطغت المادية على الإنسانية والمصلحة على القيمة والتصارع على التسامح وأدمنا التباعد رغم وسائل التواصل، واشترينا الكتب ولا نقرأها، وأنجبنا الأطفال ولا نحسن تربيتهم.. الناقوس يدق والآلة تنبهنا لإنقاذ ما تبقى.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية