+A
A-

“الحوتة التي ابتلعت القمر” معرض يثمن أعمال جعفر العريبي

يتواصل حتى الخامس والعشرين من ديسمبر المقبل بفضاء “عمارة بن مطر- ذاكرة المكان” بمدينة المحرق معرض الفنان البحريني جعفر العريبي، الذي جاء تحت عنوان “الحوتة التي ابتلعت القمر”، وذلك ضمن الموسم الثقافي “أروم من الأيام” لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث.

ويستلهم الفنان البحريني فكرة معرضه الجديد من حكاية طفولة مطبوعة في ذاكرته، تأتي على شكل سلسلة من الرسوم المحفورة متعدّدة الخامات، وتروي مشاهد استعاد تخيّل تاريخها، تجمع بين الفولكلور البحريني وأحداث إقليمية موثّقة، مع بعـض التأملات النقدية للفنان نفسه.

ويضمّ معرض العريبي لوحات تشكيلية مفاهيمية، يتكّئ فيها على فكرة إحداث خلخلة لتلك البنى الثقافية التي تحكم سيطرتها على المجتمع العربي، متجاوزا حدودها وصولا لما هو إنساني، في محاولة منه لتغيير النظرة السائدة للثابت والمتحوّل، منحازا لفكرة التغيير والنهايات المفتوحة، التي تتّصل في وجودها بفكرة الخروج على كل شيء والتحرّر من كل شيء يمكنه أن يكرّس فكرة جامدة أو تقليدا تفرضه المجتمعات على أفرادها، أسوة بمقولة ابن خلدون “اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات” بحسب موقع العرب.

وفي ذلك يوظّف الفنان البحريني مفهومي الزمان والمكان واستثمار حقيقة التحوّل والتبدل المستمّر فيهما، فيقوم باستعارة العنصر الإنساني غالبا والحيواني أحيانا في عكس بعض المفاهيم العادية المؤثرة إلى حدّ بعيد في خلق المزاج العام للمجتمع. ليلجأ بعدها لخلخلة ما هو عادي وسائد ومتكلّس، وذلك بتناوله لحالة العادي بصورته الواضحة جدا والمباشرة والحادة في آن، ممّا يترك مساحة من الشكّ لقراءات مختلفة لا تؤدّي إلى إجابات بقدر ما تعطي الفرصة لقراءة الثوابت بأشكال جديدة معاكسة في طريقة استقرائية لردود فعل متوقّعة شائعة لمفاهيم مجتمعية أخذت اتجاهات واحدة أو متعاكسة أحيانا بشكل موروث.

وعن مصادر إلهامه الفنية يقول العريبي “الإنسان في داخله عالم كبير جدا، إلى درجة أنه يجهل الكثير من الأشياء التي تسكنه، وهو، أي الفنان، حين يبدأ بالعمل الفني وإظهاره بالصورة التي يُريدها، يوفّق عادة في إظهار ما بداخله، وليس الهدف الرئيسي هو إخراج ما بداخله بقدر سعيه إلى قراءة الأشياء الخارجية بمنظوره الخاص”.

وهو في ذلك يقوم بالتحقّق من ردات فعل مباشرة تذهب إلى خصائص الإنسان بشكل خاص بصفته مخلوقا يقوم باختيار الخطأ الأسلم بنسبة معينة في كل الأحوال، ممّا يترك المجال مفتوحا لتفرّعات لا تكون متوقعة غالبا، حيث إنها تتفاعل مع المحيط بشكل فوري، ممّا يعطيه المجال للتفكير في معالجات بديلة لا تتّفق زمانيا أو مكانيا معه، وواقعا هو يقوم فقط بإعطاء الفرصة للتوقّف قليلا لعمل مراجعة سريعة جدا تبحث في الذاكرة البعيدة في شكلها الماضي، وقد تذهب أكثر من ذلك في انتقالة مستقبلية سريعة ومتوقّعة لبدايات أو نهايات متخيّلة وفق قوانين ثابتة محيطة غير متخلخلة مجتمعيا على المدى القريب.

وعمّا يُقال عنه في الوسط الفني البحريني، واتسام أعماله بالتعقيد والغموض يقول العريبي “بعض الزملاء يرون في أعمالي تعقيدا، لكني أجدها أعمالا بسيطة، أحاول من خلالها الوصول إلى الحالة البكر في التعاطي مع الشكل، لهذا أتوخى التبسيط في أعمالي، فأنا أعالج العمل بلغة حديثة، لكن خطوطها الرئيسة بسيطة، ومن هذا المنطلق، أنا باحث عن البساطة أكثر من التعقيد، حتى على مستوى التقنية الفنية، وهي تقنية تراكمت على مدى اشتغال لأكثر من عقدين في الفن، بيد أني أحاول جعلها ثانوية في العمل الفني، لهذا ليس مهما بالنسبة لي أن يكون العمل الفني جميلا بالمفهوم الشائع، وإنما يهمّني البساطة، وأن يكون العمل صادقا، وذا لعبة مغايرة بشكل ما. وأعتقدُ بأن الصدمة في العمل الفني أساس الاشتغال الفني، ليست صدمة المتلقي فقط، بل صدمتي أنا نفسي من العمل”.

والعريبي مؤمن بمقولة “الفن للفن”، ومخلص لها، فالمواضيع تتغيّر عنده، لكن المهم بالنسبة إليه طريقة تناولها ومعالجتها، فهو يبحثُ في العمل الفني بشكل معمّق وفي كيفية اشتغاله.

وعن ذلك يقول “بالطبع، يشكّل الموضوع أهمية، لكنهُ ليس بأهمية المخرج الفني النهائي، فهذا الأخير هو الأهم، وهو مسؤوليتي كفنان، واللوحة بوصفها الناتج، تأتي أولا قبل كل شيء.. لهذا إذا ما نظرنا للمواضيع المختلفة، فسنجدها متشابهة في مختلف أنحاء العالم، وهي مطروحة في كل مكان وزمان، لكني كفنان، يتوجّب عليّ أن أقدّم لغة مغايرة للسائد، وأن أقول الشيء بصورة أخرى. قد لا تكون لغتي مقبولة، أو شائعة، لكني سأبقى أقول الأشياء من خلالها، فهي تمثُل خلاصة تجربتي، وبذلك أكون كفنان مسؤولا عن الاشتغال الفني، لا عن طرح القضايا كيفما كان”.

وهو في كل هذا متحيّز للفنان، ولا يرى موجبا في نزوله إلى المتلقي، بل ليس مطلوبا منهُ فعل ذلك أصلا، ويوضّح “إن ازدياد عدد غير المعجبين بالعمل الفني، يمنحني ارتياحا، فمن خلال قراءاتي في علم الجمال، تأكّد لي بأن أعمل وفق لغة مغايرة، غير مستساغة للآخرين، الذين يحتاجون وقتا لمعرفة هذه اللغة، لهذا لم تعجبني أبدا اللغة الفنية السائدة، ودائما ما أحاول طرح أعمالي وفق لغة مغايرة تماما، وعند الشروع في العمل، لا أفكّر في المتلقي، وأتجرّدُ منه”.

ويسترسل “ذلك لا يعني التجرّد التام، فمن مصلحة الفنان الحفاظ على خيط بينه وبين المتلقي، بحيث يتسنى لهُ جذبُ المتلقي لنتاجاته، وليس على الفنان أن يشرح عملهُ بتفاصيله، بل إن الابتذال في الشرح، يفقدُ العمل غايته، لهذا مطلوب من المتلقي المحاولة والتفاعل”.​