العدد 2981
الإثنين 12 ديسمبر 2016
banner
النقاش بوصفه تمريناً للنهوض
الإثنين 12 ديسمبر 2016

هناك خلل بشكل عام في الثقافة العربية، والمحلية من ضمنها، يقلل أو يكبت الرغبة في النقاش وتشغيل العقل. هناك رغبة في “تمشية” الأمور من دون تعقيدات، لأن النقاش يعني أن يفنّد الشخص حجة الآخر، وحتى يفنّدها عليه أن يأتي بحجة أو حجج أخرى، هذه رياضة عقلية متعبة للبعض، على قدر ما تضخه في الجسم من هرمون الأدرينالين، فإن الكثير منا يتجنبها، أو يبتلعها، ويهز رأسه موافقة، وفي داخله ليست فيه أية ذرة من التصديق لأنه فقط لا يريد النقاش.

هذه الملكة الموءودة لم تأت من فراغ، فهي ربيبة تربية أسرية غائرة لا ترى في أبنائها إلا مجموعة من السذّج والمعتوهين الذين لا يملكون زمام أمرهم، وبالتالي عليهم ألا يبدوا رأيهم، لأنهم في الحقيقة لا رأي لهم في ظل وجود أبويهم، وأن عليهم السكوت إذا تحدث الكبار، وأن يبقوا مستمعين فقط، مهما كانت الأحاديث غير منطقية. لا أحد ينكر ما للخبرات المتراكمة من فوائد عظيمة، وما يصدق منها شيء ليس قليلا، ولكن هناك الكثير مما لم يخبره أو يختبره السابقون، خصوصاً في هذا العصر المتسارع، فليس من الحكمة الاقتصار على كلام الماضي بينما الحاضر يريد الحديث عن المستقبل.

ويأتي النظام التعليمي من الروضة إلى الجامعة ليواصل هذا التسطيح لتعرجات المخ وأخاديده، ويصبح كرة ملساء مقصورة على التلقي والاسترجاع، وعدم قبول الأفكار الجديدة والمناقشات. اليوم – وبفعل الواقع وحده – تحولت مهمة المعلم، فلم يعد معلّماً بالمعنى الحرفي إلا في حدود معينة، وصار مرشدا للطلبة في ما يدرسون، وكيف يدرسون، لأنهم فاقوه وتخطّوه بمراحل من خلال إبحارهم في عالم المعلومات، وليس شرطاً أنهم في المواقع الصحيحة من هذا العالم الافتراضي، ولكن ما هو معلوم أنه لا توجد قدرة لأحد اليوم، ولا لجهة أو هيئة أو حتى حكومة أن تفرض ما تريد إيصاله للجمهور. ومع ما للحفظ من حسنات لا تنكر؛ إلا أن اعتماده طريقة وحيدة وسهلة للطالب والمعلم معاً لمعرفة مستوى الطالب في أمور معيارية لا يمكن الجدل فيها، بدلاً من إقلاق راحة المنظومة بأسرها بالبحث في ما يقصده الطالب، وما يرمي إليه. البحث والسؤال والنقاش، يأتي عادة بالعداء، لأننا لم نعتد أن يردّ علينا أحد أو يخطّئنا، إلا إذا كان أكبر منا مكانة أو سناً، وإن ردّدنا بيت أحمد شوقي “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية”، إلا أن الواقع يكذّب هذا الادّعاء، فهو المفسد الأكبر للعلاقات في مجتمعاتنا، والنقاش والتفكير يجلبان في الغالب المساءلة، والمساءلة في عرف أكثر الناس كفر بآلاء الله عز وجل الذي يؤتي من يشاء بغير حساب، فلا يجوز للعبد أن يقيم الحساب من تلقائه، حتى لو علم أن مصادر النعم مشبوهة. 

هذا الخلل يمنع أن تقوم للثقافة في المنطقة قوائم تنهض بها، وتستند عليها، فبدون هذه القدرة على تحريك العقل في اتجاه النقد، لا يمكن أن نأمل في تقدم من أي شكل كان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية