العدد 2831
الجمعة 15 يوليو 2016
banner
تقرير تشيلكوت بين الحقيقة والجريمة
الجمعة 15 يوليو 2016

في يوم الأربعاء بتاريخ 6 يوليو 2016م أصدرت لجنة تشيلكوت “لجنة التحقيق البريطانية في الحرب على العراق” التي شكلها رئيس الوزراء البريطاني (جوردون براون) في 15 يونيو عام 1979م برئاسة السير “جون تشيلكوت”، وهو مسؤول بريطاني تقلد عددًا من المناصب الرفيعة في بريطانيا، وبعضوية خمسة أشخاص، وكانت مهمتها التحقيق في كل جوانب الحرب على العراق، بدءًا من القرارات التي اتخذت قبل بداية الغزو مرورًا باستراتيجية ما بعد الغزو وانسحاب القوات البريطانية من العراق، وكانت فترة التقرير بين (صيف 2011م حتى شهر يوليو 2011م). وانطلقت الجلسات الرسمية للجنة في يوم 30 يوليو 2009م وبعض الجلسات كانت علنية والأخرى مغلقة. ومن أواخر عام 2009م حتى أوائل عام 2011م وعلى مدى (18) شهرًا قدم رئيسا الحكومة البريطانية السابقين (بلير وبراون) وكبار الوزراء في حكومتهما وكبار القادة العسكريين والدبلوماسيين إفاداتهم علنيًا، كما استمعت اللجنة لأدلة من أكثر من (150) شاهدًا. ومما جاء فيه (أن بريطانيا فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب، وأن الرئيس العراقي صدام حسين لم يكن يشكل تهديدًا فوريًا للمصالح البريطانية، وأن الخيارات السلمية لم تستنفذ، وأن بريطانيا والولايات المتحدة قوضتا سلطة مجلس الأمن الدولي، وأن هذه الحرب لم تكن ضرورية). واستغرق هذا التقرير سبع سنوات وبلغ عدد كلماته (2.6) مليون كلمة بكلفة (10) ملايين جنيه إسترليني. ونشر التقرير أكثر من (1500) وثيقة.
والآن وبعد (13) عامًا من الغزو الآثم ماذا سينفعنا من هذا التقرير ونتائجه؟ هل سيرجع للعراق حضوره الوطني والقومي لسنوات ما قبل الغزو؟ هل ستُسلم أرض العراق إلى مَن تبقى من قيادة 17 تموز المجيدة؟ مَن سيُحاسب الغزاة المحتلين على أفعالهم؟ ومَن سيُحاسب رؤساء حكومات الاحتلال في العراق وأحزابهم وميليشياتهم وأعوانهم على ما ارتكبوه من جرائم بحق العراق وشعبه وقيادته؟ لقد ادعوا باطلاً على العراق وعلى قيادة وحكومة 17 تموز بأن لدى العراق أسلحة التدمير الشامل، وكثير من الحكومات العربية والأجنبية صدقت ذلك وساهمت بجزء من احتلال العراق، ادعاءات غير صحيحة كانت حجة لتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني آنذاك للمشاركة في احتلال العراق وتدميره واغتيال قيادته السياسية وقتل شعبه وهتك حرماته وسرقة ثرواته وكنوزه الأثرية التي لا تقدر بثمن. وقبل الغزو فإن عددا من الدبلوماسيين والمسؤولين البريطانيين والغربيين من مدنيين وعسكريين وأمنيين عبروا عن شكوكهم حول هذه الادعاءات، ونصحوا قياداتهم بعدم اللجوء إلى العمل العسكري بحق العراق، لكن بلير وواشنطن وإيران ومن سلك دربهم تجاوزوا تلك الشكوك وداسوا على تلك النصائح متمسكين برأيهم في احتلال العراق وتدميره.
لقد جاء الحق وزهق الباطل، وشهد شاهد من أهلها ومن عقر دار مجرميها، لكن هذه الحقيقة جاءت متأخرة بعد ارتكاب جريمة اغتيال العراق وقيادته وشعبه، فخسر العراق ما خسر من البشر والأثر والحجر، فماذا ينفع الآن كل هذا الاعتذار، ومَن سيُقدم الاعتذار؟  وإلى مَن سيوجه هذا الاعتذار؟ هل سيوجه إلى أرض العراق أم إلى ضحاياه من القتلى والمصابين؟ أم إلى الذين شردوا من ديارهم أم إلى أهالي الضحايا؟ إن جريمة احتلال العراق واغتياله أكبر بكثير من جرائم الحروب الصليبية الغربية على الشرق العربي، وأموال الدنيا وكنوزها لا تكفي كتعويض لهذه الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية؛ فأي اعتذار الآن ينفع؟ وهل ستتخلص بريطانيا وأميركا وإيران والدول الأخرى المشاركة في الغزو من إرث هذا العدوان الآثم؟ 
والآن وبعد الإعلان عن هذا التقرير تيقن لنا أمر أن الدول والبشر من ضحايا الاعتداءات والغزو والتشريد والأسر والتعذيب بحاجة ماسة إلى عالم جديد تسوده العدالة وتظلله الإنسانية، إن الغزاة بحاجة ماسة إلى محكمة عاجلة لا آجلة، وإلى قضاة نزيهين وعادلين للحُكم على الغزاة، والعمل سريعًا على إبطال آثار الغزو من قرارات وإجراءات ومؤسسات. وحتى تتحقق العدالة لهذه الدول ولأولئك البشر الضحايا على العدالة ألا تكون مبدأ سائبًا وألا تكون فريضة غائبة. وأن تنزل المحكمة على الغزاة وأعوانهم أشد العقاب العادل بمثل ما أتوا من الجرم الآثم، لكي يكونوا عبرة لغيرهم المتصفين بالرعونة والغطرسة والعجرفة، وليكون الأمر رادعًا لغيرهم الذين مازالوا يرتكبون الجرائم بحق الدول والشعوب بأفظع الطرق وأبشعها في تاريخ البشرية.
إن الاعتراف سيد الأدلة، فجرائم أميركا وبريطانيا والنظام الإيراني بحق العراق مُدونة في المئات من المجلدات الموثقة من تدمير وحرق وسرقة وقتل وأسر وتعذيب بحق الأرض العراقية وشعبها. وبعد هذا التقرير مَن سينطق بالحق ويقول إن الغزو الذي حصد الملايين من الأرواح والمصابين وشرد العراقيين من ديارهم وتسبب في نشر التطرف في مشارق الأرض ومغاربها، فمن سينطق ويقول إنها ليست جريمة يجب عقاب مرتكبيها؟ وعدم تركهم ليفلتوا بفعلتهم؟ لقد أكد تقرير تشيلكوت أن حكومة بلير لم تكن على حق في مشاركتها غزو العراق، وأن الغزو جاء على أساس “معلومات استخباراتية وتقييمات خاطئة”، وأن الغزو زاد من خطر الإرهاب في المنطقة العربية، وذكر التقرير أنه (تم تحذير توني بلير من أن ذلك الغزو سيزيد من التهديدات الإرهابية). وقد حذرت المنظمات من (فوضى عارمة ومعاناة تستمر طويلاً في العراق بعد انتهاء الضربات العسكرية)، وهذا ما حدث، فالعراق ومنذ (13) عامًا يعيش في هذه الفوضى من القتل والدمار ليلاً ونهارًا، حيث لم يستقبل العراقيون الجنود الأميركان والبريطانيين بالورود بل بالسلاح والبارود.
لقد كان غزو العراق وتدميره وقتل شعبه مخالفًا للقوانين الدولية، وخرقًا لمبادئ وقوانين الأمم المتحدة، فشرعية الغزو زائفة قائمة على الأكاذيب وأدلة مشكوك في صحتها، وعليه يجب مساءلة كل من ساهم في إشعالها من سياسيين وعسكريين وأمنيين وإعلاميين ومحاكمتهم. وبهذا التقرير أو غيره سيظل غزو العراق جريمة تاريخية كبرى، وسيظل لعنة على مَن تسبب فيه وأشعل فتيله.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية