+A
A-

العاهل: نعتز بعلمائنا الأجلاء وبخطابهم الوسطي النافع للناس

المنامة - بنا: أقام عاهل البلاد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة مأدبة إفطار في قصر الروضة مساء أمس بحضور ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة.
كما حضر المأدبة كبار أفراد العائلة المالكة الكريمة ورئيسي مجلسي النواب والشورى وأصحاب الفضيلة العلماء وأصحاب المعالي والسعادة الوزراء وعدد من المدعوين.
وبعد تلاوة عطرة من الذكر الحكيم، ألقى وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية محمد جمعة الحديث الديني بعنوان “دولة المواطنة وفقه التسامح والعيش الانساني المشترك” قال فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد (ص)، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
صاحب الجلالة الملك/ حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين “حفظه الله”
أصحاب السمو والمعالي والسعادة والفضيلة.
الحضور الكريم.
يطيب لي ابتداء جلالة الملك أن أعبّر عن خالص شكري وتقديري وامتناني لدعوتكم السامية التي أعدها تشريفًا كبيرًا لي بإتاحة الفرصة لإلقاء كلمتي هذه بين يدي جلالتكم “حفظكم الله”.
كما يطيب لي أن أذكر أن ما تقومون به جلالتكم في ترسيخ أسس المواطنة والتسامح وفقه العيش الإنساني المشترك داخل مملكة البحرين وخارجها ليستحق التسجيل بحروف من نور في تاريخنا المعاصر في عالم يموج بتحديات عظام، وبخاصة فيما يتصل بقضايا العنف والتطرف الفكري والتعصب الأيدلوجي الأعمى، ذلك أنكم استطعتم بما تتمتعون به من حكمة بالغة، ورؤية سياسية ثاقبة، وروح إنسانية عالية، أن تتعاملوا مع الأحداث بما يليق بكم من جهة، ويناسبها من جهة أخرى في غير عنف ولا ضعف، وفي ذلك أقول مستدعيًا بعض معاني وأساليب أديب العربية أبي الطيب المتنبي:
وقفتَ وما في الحقِّ شكٌّ لواقفٍ
كَأنَّكَ في جفنِ الرَّدى وهو نائمُ
وقوفَ الجبالِ الراسياتِ شوامخا
ووجهُك وضَّاحٌ وثغرك باسِمُ
فرسخت في البحرين كل تسامحٍ
تسامحُ عزٍّ تعتليهِ المكارمُ
وعالجت يا حمد الأمور بحكمةٍ
بحزمٍ وعزمٍ، شرع ربك حاكم
ولن يخزي الله الكريمُ عباده
فربك وهَّابٌ شهيدٌ وعالمُ

وبعد:
فلنا في حديثنا هذا ثلاث وقفات:
الأولى:
إن أول من رسّخ فقه المواطنة ودولة المواطنة المتكافئة في أعلى درجاتها الانسانية هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في أعظم وثيقة في تاريخ البشرية، وهي صحيفة المدينة، حيث أكد (صلى الله عليه وسلم) أن اليهود بني عوف، ويهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة، مع المؤمنين أمة.
وفي أعلى درجات الإنصاف الإنساني وقبل أن يقر للمسلمين دينهم أقر لليهود حرية اختيار دينهم، فقال: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، دون إكراه، “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” فسنة الله في كونه قائم على التنوع والاختلاف: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”.
وهذه المواطنة المتكافئة تقتضي عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس في ضوء الحقوق المتبادلة بن الوطن والمواطن، إذ يجب على المواطن أن يكون وفيًّا لحق الوطن.
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
فكل من يعيش على أرض البحرين أو أرض مصر أو الكويت أو المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة، أو أي دولة من الدول، يجب أن يكون ولاؤه لوطنه، ووفاؤه له خالصًا لا تشوبه شائبة ولاءات أو انتماءات أخرى، فالمواطنة عقد بين الوطن والمواطن، فمن أخلّ بأمن وطنه لصالح دولة أخرى حوسب على خيانته الوطنية لا على دينه ولا على مذهبه.

الوقفة الثانية:
إن تكريم الله (عز وجل) للإنسان جاء على إطلاق إنسانيته، حيث يقول الحق سبحانه: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”، ولم يقل كرمنا المسلمين وحدهم أو المؤمنين وحدهم أو الموحدين وحدهم، وعندما أرسل الحق (سبحانه وتعالى) خاتم أنبيائه ورسله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أرسله رحمة للعالمين وليس للمسلمين وحدهم، فقال سبحانه: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس كل الناس وليس لنفسها ولا أبنائها فقط، وعندما حرم قتل النفس حرم قتل النفس أي نفس وكل نفس دون تفرقة بين نفس وأخرى، فقال سبحانه: “أإنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيْرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُوْنَ”، ولا يوجد في الإسلام قتل على المعتقد قط، فحينما رأى النبي (صلى الله عليه وسلم ) امرأة كافرة مسنة مقتولة في ساحة القتال قال (صلى الله عليه وسلم) “من قتلها؟ ما كانت هذه لتقاتل!”، وعندما مرّت عليه (صلى الله عليه وسلم) جنازة يهودي انتصب (صلى الله عليه وسلم) واقفًا، فقيل له (صلى الله عليه وسلم ): إنها جنازة يهودي، فقال (صلى الله عليه وسلم): أليست نفسًا”.
الوقفة الثالثة:
إن الإسلام دين الرحمة والعفو والتسامح، والتصالح مع الذات والآخر، فالفقه عند أهل العلم به هو التيسير بدليل، ولم يقل أحد ممن يعتد بقوله من أهل العلم إن الفقه هو التشدد، لأن الله (عز وجل) يقول: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”، و ما خُيِّر نبينا (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ولا قطيعة رحم، فإن كان إثًما أو قطيعة رحم كان (صلى الله عليه وسلم) أبعد الناس عنه.
وهو دين الرحمة حتى بالحيوان، فعندما رأى النبي (صلى الله علية وسلم) رجلاً يشق على جمل له، قال له: يا صاحب الجمل اتق الله في هذه البهيمة التي ملكك الله (عز وجل) إياها، فإن جملك هذا قد اشتكى إلي أنك تجيعه وتدئبه، أي تتعبه وتشق عليه.
ومن ثمة نؤكد أن كل ما يأخذ أو يؤدي إلى الرحمة والتسامح والبناء والتعمير وعمارة الكون وحب الخير للناس يأخذك إلى صحيح الإسلام، وكل ما يأخذك في اتجاه العنف والتشدد والتطرف والفساد أو الإفساد يأخذك إلى ما يناقض الإسلام، بل ما يناقض الأديان والفطرة الإنسانية السوية، حتى لو تزيا بألف ثوب وثوب من أثواب التدين الكاذب أو التدين السياسي أو التدين الشكلي، أو تستّر بمعسول القول وفصيح الكلام وبليغه، حيث يقول الحق سبحانه: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام”َ وإذا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ”.
ذلك أن أكثر ما أصاب منطقتنا من ويلات ومآس إنما هو ناتج عن متاجرة الجماعات الضالة بدين الله، وتوظيفه لمصالح لا علاقة لها بالدين، مع تأكيدنا أن أي ربط للإرهاب بالإسلام نتيجة ما تقوم به هذه الجماعات والعناصر الضالة المتطرفة والمخربة المحسوبة ظلمًا على الإسلام هو ظلم بين للإسلام والمسلمين، فنحن ضحية ولسنا جلادين.
وختامًا أؤكد أن مواجهة جميع الجماعات والعناصر الإرهابية والمتطرفة تعد واجبًا دينيًّا ووطنيًّا وإنسانيًّا حتى نسترد خطابنا الإسلامي الحضاري الوسطي السمح من هذه الجماعات والعناصر المتطرفة والمتشددة التي تحاول اختطافه، ونحفظ لأوطاننا أمنها واستقرارها، وللإنسانية جمعاء أمنها وسلامها ونجتث معا الإرهاب الأسود بكل صوره وأشكاله ونقتلعه من جذوره ونخلص الإنسانية جمعاء من شروره وآثامه.
أسأل الله (عز وجل) أن يحفظ البحرين وأهلها ومصر وأهلها وسائر بلاد العالمين من كل سوء ومكروه، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
بعد ذلك تفضل صاحب الجلالة الملك بإلقاء كلمة سامية فيما يلي نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أصحاب السمو، أيها الإخوة الأعزاء،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
يسرنا أن نجدد لكم التهاني بشهر رمضان المبارك، ونبارك لكم دخول العشر الأواخر منه، وأن نلتقي بكم في إطار التواصل والترابط والمحبة التي تجمعنا بكم، مبتهلين إلى المولى تعالى أن يعيده علينا وعلى وطننا العزيز وشعبنا الكريم بالأمن والخير واليمنِ والبركات، وعلى الأمتين العربية والإسلامية بالعز والرفعة والسلام.
كما يسرنا أن نتقدم بالشكر والتقدير لفضيلة الشيخ الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية الشقيقة على محاضرته القيمة التي تحدث فيها عن (دولة المواطنة وفقه التسامح والعيش الإنساني المشترك)، فجزاه الله تعالى خيرًا وأعانه على ما يبذله مع إخوانه العلماء المصلحين من توجيهات وإرشادات ومواعظ للمسلمين. وإننا نعتز بعلمائنا الأجلاء وبخطابهم الوسطي الذي ينفع الناس في دينهم ودنياهم ويعزز اللحمة الوطنية والأخوة الإنسانية.
ختامًا نسأل الله تعالى أن يحفظ مملكتنا البحرين وأهلها، وينشر علينا رداء السلم والأمن والاطمئنان. كما نَشْكُرُ لكم تهنئتكم لنا بالشهرِ الفضيل، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأدى صاحب الجلالة الملك والحضور صلاة المغرب جماعة.
وعقّب مأدبة الإفطار، صافح جلالة الملك الحضور، وتبادل معهم التهاني بمناسبة العشر الأواخر من رمضان، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع الصيام والقيام وصالح الأعمال، وقد أعرب الجميع عن شكرهم وتقديرهم لجلالة الملك على هذه الدعوة الكريمة، داعين الله أن يحفظ جلالته ويمتعه بموفور الصحة والسعادة، وأن يحقق للبحرين ما تصبو إليه من عزة ورفعة وتقدم.