النشاط البدني والتفوق الأكاديمي وجهان لعملة واحدة
اختصاصي علاج طبيعي محمد الريس
لعل من أبرز الصور النمطية التي تؤخذ على المتفوقين أكاديميا هي أنهم عاكفون على الكتب والدراسة ليل نهار، وهو ما يمثل بتصور البعض الاستثمار الأمثل للوقت وتوظيفه في زيادة التحصيل الأكاديمي، فهل هذا الأمر صحيح علميا؟
يمكن القول إجمالا إن هذه الصورة النمطية تعطي تصورا خاطئا بعض الشيء؛ فالانغماس في الكتب والمذاكرة وقضاء كل الوقت على مقاعد الدراسة مع التفريط في الحركة والنشاط البدني يفوت على الطالب الكثير الكثير. ومن منطلق هذه الفكرة نجيب بشكل موجز عن التساؤلات المتعلقة بعلاقة الحركة بالدماغ والتفوق الأكاديمي. فما أهمية الحركة وتأثيرها على الدماغ والقدرات التحصيلية؟ وما أهمية النشاط البدني والانخراط في ممارسة الرياضة بالنسبة للطلاب؟ ثم ما التوصيات العالمية في مجال ممارسة النشاط البدني؟
النشاط البدني والتفوق الأكاديمي وجهان لعملة واحدة، ليس من نافلة القول ولا من باب التعبيرات الاستهلاكية، بل إن هذه العبارة تمثل خلاصة ما توصلت له مجموعة كبيرة من البحوث والدراسات العلمية التي انتشرت في الفترات الأخيرة. ولعل ذلك عائد إلى التأثيرات الفسيولوجية التي تحصل في الدماغ أثناء ممارسة النشاط البدني. يعمل النشاط البدني على زيادة ضربات القلب وبالتالي زيادة الدم بما يحويه من أوكسجين ومواد تغذوية وضخها للدماغ، والتخلص من المواد غير النافعة، كما أنه يعمل على زيادة نمو الخلايا المسؤولة عن التعلم والذاكرة في منطقة الحصين (Hippocmpus)، وتؤيد ذلك دراسة أجراها إركسون وزملاؤه بالعام 2011 توصلت إلى أن ممارسة الرياضة يمكن لها زيادة حجم الحصين وتحسين الذاكرة. إضافة إلى ما سبق، فإن النشاط البدني يعمل على تحسين وزيادة إنتاجية الهرمونات والنواقل العصبية في الدماغ والمسؤولة عن عدد كبير من الوظائف الحيوية المهمة للدماغ، كالإندورفين والإنكافلين وما لهما من دور مهم في التحكم بالألم، السيروتونين وما له من دور مهم في التحكم في المزاج، الدوبامين وما له من دور مهم في التحفيز والتركيز والتعلم، النورابنفرين وما له من دور حيوي في التحفز والانتباه والاستيعاب، وغيرها أيضا من النواقل العصبية والهرمونات. كما ثبت أيضا أن للنشاط البدني المنتظم القدرة على زيادة عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ، وهو ما يعرف بسماد الدماغ (BDNF) وذلك لما له من دور حيوي وفعال في تحفيز عملية تخلق النسيج العصبي وضبطها، وكذلك نمو وتمايز العصبونات والمشابك الجديدة خصوصا في المناطق المسؤولة عن التعلم والذاكرة والتفكير العالي، وهي المناطق ذاتها التي ينشط فيها هذا العامل.
وفي ذات السياق أيضا، تضافرت العديد من الدراسات والبحوث العلمية التي تؤكد أهمية الحركة والنشاط البدني على صحة الدماغ وكذلك تأثيرها على زيادة القدرات الدماغية والتحصيل الأكاديمي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت الكلية الأميركية للطب الرياضي دراسة في العام 2015 توصلت فيها إلى أن ممارسة 30 دقيقة من النشاط البدني يمكن لها أن تحسن القدرة على معالجة المعلومات وقدرات الذاكرة، وهي ذات النتيجة التي توصلت لها دراسة أخرى قامت بها جامعة جورجيا الأميركية، إلا أن الأخيرة كانت تدرس تأثير ممارسة 20 دقيقة فقط من النشاط البدني. أضف لما سبق، أنه تتناسب القدرات الإبداعية طرديا مع ممارسة المشي بحسب ما توصلت له دراسة مشهورة أجريت في جامعة ستانفورد الأميركية العام 2014 عنونت بـ «أعط أفكارك بعض الأرجل: التأثير الإيجابي للمشي على التفكير الإبداعي»، إذ قام أوبيزو وشوارتز بسلسلة من 4 تجارب تختبر القدرات الإبداعية وتقارنها على عينة من طلاب الجامعة، وذلك بمقارنة نتائج بعض مقاييس الإبداع في أثناء الجلوس، أو المشي على جهاز المشي، أو السير في حرم الجامعة. وفي الإجمال، وجدت التجارب السابقة أن المشي يعزز من التفكير الإبداعي في الوقت الفعلي لممارسته، بل وكذلك يبقى هذا التأثير بعد فترة وجيزة، كما تتأكد هذه التأثيرات وتكون في أفضل نتائجها عندما يكون المشي في الخارج في بيئة خالية من المشتتات. وأخيرا وليس آخرا، وجدت البحوث أن للنشاط البدني تأثيرا وقائيا يقلل من فرص انخفاض القدرات الدماغية أو فرص الإصابة بمرض الخرف مع التقدم في العمر، خصوصا إذا احتوى البرنامج التدريبي على خليط من التمارين الهوائية وتمارين المقاومة.
إذًا اتضح أن للنشاط البدني والمشي تأثيرات لحظية، فضلا عن أن تأثيراته التراكمية أو بعيدة المدى ستكون أكثر بكثير خصوصا عند الانتظام على برامج حركية مستمرة. ومن هنا نذكر خلاصة توصيات منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالنشاط البدني والصادرة بالعام 2020. تحث منظمة الصحة العالمية الأطفال والمراهقين (من عمر 5 إلى 17 سنة) على ممارسة 60 دقيقة أو أكثر من النشاط البدني أو التمارين الهوائية متوسطة أو عالية الشدة في اليوم الواحد، كما تحث البالغين وكبار السن (من عمر 18 إلى 64 سنة) بممارسة 150 إلى 300 دقيقة في الأسبوع من التمارين الهوائية متوسطة الشدة (أو 75 إلى 150 دقيقة من التمارين عالية الشدة) بالإضافة لممارسة تمارين المقاومة التي تقوي معظم عضلات الجسم بمعدل يومين أو أكثر في الأسبوع.
وفي الختام، تسوقنا نتائج الدراسات التي تم استعراضها وغيرها الكثير من الدراسات الأخرى التي تدعم نفس النتائج والتوجه إلى القول بدرجة عالية من الدقة، تسوقنا للقول إن النشاط البدني والتفوق الأكاديمي وجهان لعملة واحدة، وإن من الضرورة بمكان أن يتم توجيه الطلاب إلى الانتظام في برامج تعزز النشاط البدني لديهم بالتوازي مع الجانب الأكاديمي والمذاكرة، كما نؤكد ختاما الدور المهم الذي يعول على المؤسسات التعليمية من وضع الخطط والبرامج المثلى لتثقيف الطلاب بأهمية النشاط البدني ودوره في التفوق الأكاديمي وصحة الدماغ، وكذلك الاستفادة القصوى من حصص التربية البدنية بما يعود بالنفع والإيجاب على الطلبة، وكما قيل في التراث اللاتيني المعروف «العقل السليم في الجسم السليم».