العدد 5696
الأحد 19 مايو 2024
banner
فاطمة النهام
فاطمة النهام
الحِذاء القديم (قِصة قصيرة)
السبت 27 أغسطس 2022

في صباح أحد الأيام، أشرقت الشمس في  سماء لندن الضبابية، مقترنة بصوت ساعة بيج بن العريقة، لترسم لوحة فنية جميلة. ومن بين صفوف الناس وشوارع المدينة الكبيرة، أخذ (البرت توماس) مكاناً على الرصيف، وهو يضع أمامه صندوق أغراض تنظيف الأحذية.
لقد اعتاد مهنة تنظيف الأحذية منذ طفولته، حيث ورث هذه المهنة عن والده، ها هو الآن على مشارف الخمسين من عمره، 
كان يقابل وجوهاً عديدة من الناس، رجالًا ونساءً وأطفالاً، كانوا من الطبقة الراقية أو العاملة، فالفقراء أمثاله لا يأتون إليه أبداً.
اعتاد أن ينهمك في تنظيف أحذيتهم، وهو يرفع رأسه بين الحين والآخر، يتأمل هندامهم وأناقتهم، وتعابير وجوههم، كان يشعر بأنه قزم أمامهم.
تمنى أن ينظر إلى العالم من الأعلى وهو يقف على قدميه، تمنى أن يشعر بإحساس الشموخ، لكن قدره حتم عليه بأن يطأطئ رأسه إلى الأسفل، وأن يرى دائماً من الأسفل، فرؤيته للعالم لم تتعد حدود أرضية الرصيف.
حينما كان يخالجه هذا الشعور، غالباً ما كانت تتردد على مسامعه عبارة والده له (يا بني.. لا تخجل من مهنتنا هذه، نحن  نزاول عملاً شريفاً ولا نؤذي احداً).
استفاق من فيض افكاره ليجد شاباً طويلاً امامه، اقترب منه الشاب، وفوجئ به يضع قدمه أمام وجهه. ما المشكلة؟! لقد اعتاد على أن يشهر الناس أرجلهم أمام وجهه.
انهمك بتنظيف الحذاء بخفة، واختلس النظر إلى الشاب، خاطب نفسه: كم يبدو أنيقاً هذا الشاب، لابد أنه طبيب أو محامٍ، إنه منهمك في قراءة الجريدة. ترى ماذا يقرأ؟!
تمنى في قرارة نفسه أن يتعلم القراءة والكتابة. إنه لا يستطيع أن يقرأ، أو أن يتصفح الجريدة. كم هو أمر محزن، بل مخزٍ، تمنى أن يقرأ الجريدة، تماماً كما يفعل هذا الشاب، ولكن كيف؟ وهو لم يدخل المدرسة يوماً!
نفض الأفكار من رأسه سريعاً، وانهمك في تنظيف الحذاء. يجب ألا يكون فضولياً، عليه أن يتقن عمله على أكمل وجه. فأمثاله لا يقرأون الجرائد أو يرتدون الملابس الأنيقة، هي فقط للأغنياء.
وضع الشاب عملة معدنية في كف (البرت)، وهو يبتسم بلطف، ثم غادر المكان. لقد اعتاد أن ينظف الأحذية باهظة الثمن.. لا أن يرتدي مثلها أبداً.
كان يمر أمامه عدد من المارة، وعيناه تترقبهم، تنتظرهم حتى يتقدموا إليه ليشهروا أقدامهم بوجهه، لينكس رأسه لهم، ثم يقوم بتنظيف أحذيتهم. لقد اعتاد هذا الأمر وكفى.
عاد إلى بيته وقد أنهكه التعب، فتح خزانته الصدئة، وتأمل حذاءً قديماً كان قد أهداه إياه والده حينما كان في الثامنة من عمره.
تذكر حينما أخذه إلى المحل، ليشتري له هذا الحذاء، كان يومها يبتسم بلطف ويمسح على رأسه برفق.
احتضن الحذاء القديم وهو يتذكر حديث والده (يا بني.. لا تخجل من مهنتنا هذه، نحن نزاول عملاً شريفاً دون أن نؤذي أحداً). وخلال ثوانٍ وجد نفسه يرمي به في نار المدفأة!​
برقت عيناه ببريق الظفر، وكأنه انتصر في معركة، و أخذ يتأمل الحذاء القديم وهو يحترق.. 
ويحترق..  ويحترق!

 

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .