+A
A-

صاحب محمصة الجزيرة: البحرينيون أصحاب موروث غذائي فريد

محمصة الجزيرة.. يعتز بها البحرينيون ويكنون لها ذكريات خاصة، والدليل الإعلان التلفزيوني الشهير في فترة التسعينات خصوصا في شهر رمضان. التقت “البلاد” صاحب مصنع ومحمصة ومخللات الجزيرة عبدالجليل الحمدان، المكنى بـ “أبو إبراهيم”، وتعرفته عن قرب ولامست قلبه الحنون، وهو يحكي ذكرياته، إذ أصبح أبا لإخوانه بعد وفاة والده قبل أن يتزوج ويكون هو الآخر أبا لأبناء. طور الغذاء البحريني الشعبي ليكون مهيمنا في ضيافة كل منزل وأصبحت منتجاته متوافرة على رفوف السوبرماركت، ويتم تصديرها إلى دول الخليج عبر وكلاء في كل منطقة.

فإلى تفاصيل مجريات الحوار مع أبو إبراهيم:

حدثنا عن بداياتك ونشأتك؟

عبدالجليل إبراهيم خليفة الحمدان من مواليد العام 1957 من سكنة منطقة المحرق تحديدا في البسيتين، وأصلي من المحرق، فريج الزياني، حيث عشنا هناك لمدة 20 عاما، وتربينا أفضل تربية في ذلك الفريج وتعلمنا الصنعة، إذ عاصرنا جيل الآباء الذي تعلمنا منه النخوة والفزعة والتواصل الاجتماعي، رغم أنني عشت بعدها في منطقة البسيتين لفترة 25 سنة، ولكنها تخلو من الذكريات، وطغت ذكريات الطفولة، إضافة إلى التراث.

كانت البحرين بسيطة ماديا، ولكنها اجتماعيا أكبر وأحلى، وهناك ترابط وتراحم، لكنها ضعفت اليوم، في تلك الحقبة الزمنية كان لأهلنا تراث وموروث شعبي في كل المجالات، فهم أهل بيئة وتراث وتاريخ وحضارة؛ لذلك كانوا مبدعين في جميع المجالات. البحرينيون مبدعون في صياغة الذهب، واللبس، ومميزون عن دول الخليج، إضافة إلى الجانب الغذائي، لذلك أصبحت الآن صاحب محمصة ومصانع حلويات ومخللات الجزيرة.

وماذا عن الفترة الدراسية؟

درست بداية بمدرسة عمر بن عبدالعزيز الابتدائية في فريج الزياني، ثم انتقلنا إلى مدرسة عبدالرحمن الناصر، ثم طارق بن زياد، وأخيرا الهداية الخليفية في العام 1977.

وفي مرحلة التوجيهي توفي والدي، وكنت أمام خيارين، إما مواصلة الدراسة، أو أن أحل مكانه، واخترت أن أتولى مكانه، فاستكملت المرحلة “منازل”، وتبين لي حينها أن الله لم يخلق إنسانا غبيا، ولكن هناك من يكون تحصيله علمي وآخر عملي، وأرى أن جميع من كان تحصيلهم العلمي متوسط أصبحوا قادة في المجتمع وأصحاب مشاريع، أما أصحاب التحصيل العلمي، فاصبحوا موظفين في شركات ومؤسسات، وصرنا نوظف أفراد، بدل أن نتوظف.

كيف كانت بداية فكرة مصنع ومحمصة الجزيرة؟

حينما قررنا دخول السوق، كنا نستهلك 99 % من المواد الغذائية المستوردة رغم أننا نملك تراثا غذائيا غنيا، إذ كنا نعمل مع أهالينا ونملك أبقارا ننتج منها السمن، ونحمص القهوة، وفي موسم الآجار نبدأ بإنتاجه إضافة لجميع الصناعات المنزلية، أخذنا هذه الفكرة وحافظنا عليها لتبقى الهوية الأصلية وطورناها.

كانت الفكرة في ذهني منذ العام 1982، وبدأت بمصنع الآجار والقهوة والبهارات في العام 1983، قمنا بتطوير كثير من الصناعات المنزلية مع إشراف صحي، وقدمناها بالبحرين وشاركنا بها في معارض بدول مجلس التعاون، وتبين لنا أن الذوق واحد، قد يختلف بعض الشيء، ولكن يبقى الأساس والمسميات واحدة، ونفخر بمنتجاتنا التي تعرض على رفوف السوبرماركت؛ كونها مكتوبا عليها “صنع في البحرين”.

انتقلنا إلى محمصة الجزيرة بالمجال نفسه، ولكن من حيث الضيافة، اذ إن من ميزة العربي أن يكون مضيافا لنفسه ولغيره حتى لو لم تكن لديه القدرة الشرائية للكيلو، فإنه يأخذ كمية ربع كيلو، فلذلك ركزنا على هذا الجانب وأنشأنا مركز محمصة الجزيرة، وهو فرع واحد في العام 1990 (أيام الغزو العراقي الغاشم للكويت)، ووصلنا الآن إلى نحو 17 فرعا، وأصبحنا من أكبر الفروع المهتمة بالضيافة على مستوى البحرين. وسر نجاحنا كمن في اختيرنا أجود الأنواع، وحتى عيد الأضحى الماضي، استوردنا المنتجات الفاخرة من تركيا وجنوب إفريقيا من الجانبين الكلاسيكي والمطوّر، ونحرص على استيراد المحاصيل الزراعية من بداية الموسم بكميات تكفي لمدة سنة؛ لنحافظ على عملنا في مستوى واحد، وحتى لا تكون هناك امدادات ضعيفة لبعض الأنواع. عند بداية العمل بمصنع الجزيرة كنا نجلب عمالة بسيطة، ونكون لهم مثل مدربي معهد، واستمررنا منذ العام 1983 في مصنع الجزيرة الأول للمخللات والقهوة، واليوم بفضل مساعدة المناطق الصناعية ووزارة الصناعة والتجارة أعطينا هذه الأرض بمساحة 5200 متر مربع، وتم بناؤها 3 طوابق بواقع 8 آلاف متر مربع، وهو أكبر مصنع حلويات في المملكة بقوة عاملة قوامها نحو 150 عاملا، ويرفع المصنع من شأن اسم البحرين، حيث إنه يصدر لدول الخليج.

ماذا كان أول عمل لك؟

عندما توليت مكان الوالد رحمه الله عليه في العام 1977 كان نشاطه مختلفا، إذ كان يبيع “التتن”، وكنا نجلب “القدو” من البصرة وأدوات الدخان، واشتغلت في مكانه لمدة 5 سنوات تقريبا.

ماذا تعلمت من الوالد؟

كنا 6 إخوة، أصغرنا عمره 6 سنوات، تعلمنا أساس التجارة من دكان الوالد، إذ علمنا على العلاقات الاجتماعية والبيع والشراء، وتسليم العهدة، وكان تدريبا ميدانيا في سوق المنامة التي يعتبر جامعة لجميع التجار، وأفادني والدي في تأسيس حياتي كثيرا، حيث علمني الصبر وطول البال واحترام الآخرين.

قد يرى البعض ويلاحظ ظاهرة شرب الشيشة من جانب النساء، ولكنها ظاهرة ليست جديدة على المجتمع البحريني، حيث  كان أهل القرى يعملون بالدخان ويتناولون “القدو” في المنازل والمآتم، وحتى السواح الأجانب كانوا يقتنوها، ثم  تم تطويرها إلى “الشيشة”.

بعد غزو “الشيشة” وخوفا على اندثار المهنة الموروثة من المرحوم والدي، قررت تطوير المهنة لتتواكب مع الساحة؛ لذا استخرجت رخصة من وزارة الصناعة والتجارة لتصنيع المعسل من الدخان وتطويره، وغيرنا صفات الدخان من خام إلى سلوك، كما قمنا بصناعة منتجات بنكهات وحولنا مهنتنا لتتناسب مع النظام الجديد للمقاهي، وطرحنا منتجات باسم مصنع “أدخنة البحرين”، وهو أول مصنع للمعسل في دول الخليج، وأخذ سمعة وصيتا ووصلت منتجاته إلى الدول الأوروبية مثل كندا وأستراليا وألمانيا والتشيك وأميركا، كما صدرنا إلى (عرب 48) عن طريق مصر.

كان الإقبال كبيرا على المنتج من البلدان كافة، ودائما تتم التوصية بالمعسل البحريني، وأصبح اسم المنتج شهيرا عالميا؛ بسبب اختيارنا للجودة والنوعية، يكون الدخان مضرا، ولكن كنا ملتزمين بمواصفات معينة ونكهات نستوردها خصيصا من ألمانيا بسعر غالٍ.

لماذا تم إغلاق مصنع أدخنة البحرين؟

بحكم أن البلد لها أنظمة وقوانين بعد 25 سنة من العمل، تدخلت وزارة الصحة، وأبدت رأيها بأننا الوحيدون في تصنيع المعسل، وبحكم ضرره على الإنسان قرروا إغلاق المصنع، وكنا ننشط في تصنيع واستيراد وتصدير المنتجات، وكان هناك خيار لنقل الفكرة لأي دولة، ولكن سيتم تغيير “صنع في البحرين” إلى تم تصنيعه لصالح مصنع أدخنة البحرين ورفضتُها من ناحية المبدأ، حيث إن قيمة بضاعتي في كونها مصنوعة في البحرين، وأتشرف بذلك، فعندما ألغيت هذه الصفة، فضلت إغلاق المصنع، وتم إغلاقه منذ نحو 4 سنوات، وفتح علينا الله باب المخللات والبهارات والمكسرات.

كيف تخطط لاستمرار عمل المصنع؟

لدي نحو 150 موظفا، ويتغيرون باستمرار، ولكن أصعب شيء تدريب أبنائي، حيث إنهم متعلمون ويملكون شهادة، وعقدنا اتفاقا معهم بحكم أن البحرين وظائفها محدودة، والتجارة موروث من الآباء، لذلك لابد أن أنقله لأبنائي، قد تتغير المهنة والثقافة، ولكن تبقى ثقافة التاجر، ويعمل معي الآن 3 من بناتي، و2 من إخواني، وكانت الطاولة تقف على رجل واحدة وتهتز، أما الآن، فهي تقف على 6 أقدام بفضلهم.

وهل عملت موظفًا؟

كنا نملك دكانا في منطقة سوق الأربعاء بسوق المنامة منذ 1977 وحتى 1983، بعدها قرر أصحاب البناء أن يتم هدم وتجديد المبنى، فعملت كموظف في البلدية لمدة 6 أشهر، ولم أتحمل الوظيفة، إذ كان المال يملأ الجيب خلافا للراتب، وتأسفت أسفا شديدا على الوضع؛ لذلك لم أستطع الاستمرار، وفي حينها كنت أؤسس محلات الحلويات التي بدأت في العام 1983.

كيف كانت بداية العمل بالمشروع؟

كان بالمنزل، وكنا أول من صنع الدرابيل والنشاب الكويتي، إضافة إلى السمبوسة، وبعدها الآجار والمهياوة، وتدرجنا في طرح المنتجات حتى تمكنَّا من متطلبات السوق، نعمل بأنفسنا أنا وزوجتي “أم إبراهيم”، إذ كانت من المؤسسين والداعم القوي لي في الاستمرار بالمشروع، فهي شريك في الحياة والتجارة، وبعدها دخل معنا خميس وخالد، ثم وظفنا عمالا  للاستعانة بهم ودارت العجلة، ومن ذلك الوقت حتى الآن وصل عدد الموظفين إلى نحو 150.

كم صنفا ينتج مصنع الجزيرة؟

هناك أكثر من 150 صنفا، ولكن الموجود كأفكار أكثر من الذي تم طرحه، سوق البحرين الصغيرة والأسواق المفتوحة على الخليج تجبرنا على عدم التخصص بصنف واحد، بعض الأحيان يضعف الطلب على نوع ويزيد على نوع آخر، فهناك بضائع موسمية إن كانت لشهر رمضان أو العيد وغيرها من مناسبات لا نستطيع تثبيتها، وهناك أصناف دارجة مثل المخللات، في بداية العمل كنا ننتج عبوات بوزن 3 كيلوجرامات حتى أصبحنا ننتج عبوات بوزن 15 غراما.

نرتقي بخدمة الزبون لنرسم السعادة على الآخرين؛ لذلك لا نبخل على بضاعتنا إن كانت بالتغليف، أو التصميم، فأنا أستورد حبة القهوة من البرازيل بمواصفات وأحمصها في المصنع على حسب المزاج، وأكون مع المصمم، وأشرح له إحساسي بحبة القهوة؛ حتى يرتقي بشكل التصميم والصورة، فعلا هو مصمم محترف، ولكنه لا يملك الخبرة في مجال جمال البضاعة.

ما نصيحتك لرواد الأعمال الجدد؟

رسالتي لكل فرد يجب أن يكتشف ذاته، إذ لا يوجد إنسان من دون إبداع، وهناك كثير من الخريجين الذي يملكون الشهادات العلمية الجامعية، ولكن الخبرة مهمة.

ما أسلوبك في إدارة الشركة والمصنع؟

هناك نوعان من الإدارة، نوع يخاف فيه الموظفون من مديرهم، والآخر يحبونه، نوظف الموظفين ونقول لهم أنت ضيف، ولديك فرصة عمل وبأدائك تساهم في إعطائك الراتب، ومجرد التسيب بالعمل، فأنت تضيع راتبك، ولا نجبر أحدا على البقاء، فالكل حر نفسه، وبذلك كسبنا ولاء الموظفين من باب احترام الأفراد وتقديرهم ومشاركتهم في أفراحهم وآلامهم، أصبح هناك عمل جماعي عائلي بين الموظفين.

كيف تساعدك الزوجة في حياتك العملية؟

“أم إبراهيم” هي الحب، ولولاها لم أصل لهذا الموقع، فهي تمثل لي الشيء الكبير والكثير، كما أن الغرض من الزواج بها  ليست أن تكون زوجة فحسب، بل هي أمانة لديَّ، صحيح أننا مؤمنون بطاقتنا التي نستمدها من الله، ولكن لا شيء مثل عاطفة الحب، ويكفيني أن أكون جميلا عند زوجتي فقط، وهي الآن على رأس القائمة، وأجد سعادتي فيها.

ما الموقف المؤثر في حياتك؟

أول انهيار هو وفاة والدي، إذ أحسست بانقطاع الشجرة التي فرعها في السماء، إضافة إلى أني أصبحت أبا لإخواني، وحملني المسؤولية في عمر صغير، والانهيار الثاني عندما مرضت “أم إبراهيم” في وقت ما، إذ ضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، وعندما قرروا لها إجراء عملية جراحية أحسست أن الدنيا اسودت في عينيَّ.

كيف تصف لنا العائلة؟

لدي 8 من الأبناء والبنات، تربوا على خلق وأدب وعلم، تزوج منهم 4، وبقي 4، كما أصبح لدي أحفاد، فهم معنى الحياة، محافظة الإنسان على بيته وأسرته تسير أموره ببساطة، فهذه الحياة تحتاج جهدا وتضحيات وصبرا، ولدينا إنجازات من هذا الترابط الأسري.