العدد 6064
الخميس 22 مايو 2025
banner
الحروب الآمنة
الخميس 22 مايو 2025

 في الوقت الذي تنحبس فيه الكلمة وحرية التعبير على المستوى الدولي، ولا يُسمح فيه لأحد أن يبدي رأيًا يخالف ما تؤمن به أكثر الأنظمة ادّعاءً للحرية والانفتاح وتقبّل الرأي الآخر؛ يبقى في نفس الكثير من الناس بقية من رغبة في قول كلمتهم التي يعتقدون أنها كلمة حق، وهي – في البداية والنهاية - مجرد وجهة نظر، ولكنهم يخشون العسف، والملاحقة في الأبدان والأرزاق، ومن لديه ذراري يخشى عليهم أن يتأثروا بمواقفه الواضحة الصريحة ولا ذنب لهم فيها، فقد يوافقونه الرأي، وقد يخالفونه، وقد يكونون “خبر خير” ولكنهم يصابون بشظايا الحرب التي يخوضها غيرهم.
“الحروب الآمنة” يخوضها الناس والإعلاميون و”الناشطون” حيث يودّ بعضهم أن يبدو مقاتلًا شرسًا في زمن لا قتال فيه ولا شراسة إلا شراسة الرقباء، فيشعل الحروب في التافه من المواضيع، ويكبّر مواضيع لا تودي به إلى مجاهل الدروب، وإذا انتقد فإنه يقسو على “العدّة” وينهال عليها ضربًا وقدحًا، ويترك “الحمار” – أعزّكم الله – طليقًا سليمًا من أي أذى. فتراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل تصريح تافه من فنان، أو رأي للاعب كرة قدم، أو مواطن خانه التعبير، أو نواب يتعاركون في مجلسهم بالكلمات النابية، وقبضات الأيادي، وهو يعلم أن ليس في يدهم “مفتاح العريش”. أو يلوم منظومة مؤسسية أو رسمية، ولكنه لا يقترب من موطن الخلل فيها، يكثر اللوم على مؤسسة ليست لها أنياب وهو يعلم أنها لن تعضّه، أما من يستحق اللوم فيما وصلت إليه المؤسسة فهو آمن من المحاسبة والقدح.. “الحروب الآمنة” لا تتورع في إشعال فتنة طائفية أو مذهبية لأنها تبعد النقد عن الأنظمة، ويبقى الناس عالقون في رقاب بعضهم. وفي “الحروب الآمنة” لا يسأل الواقفون وراءها عن تخلي الدول عن بناء هوية وطنية جامعة، ولكنهم ينتقدون الناس الذين لما لم يجدوا مشروعًا وطنيًّا يستظلون به، احتموا بهوياتهم الفرعية، القبلية منها، والمذهبية، والمناطقية، والعائلية، وصار كلٌّ منهم ينافح عن انتماءاته الصغيرة، تاركًا أصحاب المسؤولية الحقيقيين في مأمن من المساءلة والمحاسبة، ومن العجيب أن يُفسح المجال لهذه الهويات الفرعية لتمنح المستغيث بها الغوث، فيتأكد أنه لولاها لما نجا، أو استفاد.
كلها حروب تلهية، تحتدم في الهوامش، أما المتون وأسس المشكلة فتبقى صفحاتها ناصعة لامعة لا شية فيها.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية