فارق الحياة خلال أسبوع واحد أكثر من أربعة أدباء مصريين، شاعر وثلاثة روائيين، أما الشاعر فبحكم التخصص هو الذي أصابني بالحزن والألم، ليس لأنه فارقنا إلى الأبد، أو كون تجربته فريدة ولم تتكرر في التاريخ الأدبي العربي، إنما لأنه يقاوم المرض بالشعر، كان يكتب وهو في غرفة العناية المركزة، قصيدة كل يوم، آخر قصائده أرسلها لي بعد شجار شخصي معي، عنونها بـ “آه من صدري”، وبالفعل كان الراحل الكبير الشاعر محمد الشحات يعاني من آلام شديدة في صدره، وأن “الكيماوي” والعمليات الجراحية، و “النووي”، لم يهزموا “سرطان الرئة” الذي تسلل إليه دون أن يدري. وهو يحدثني بلهجة كلها عتاب لأنني أطيل المسافة الزمنية عندما أعود وأطمئن عليه، عاتبني متألمًا وهو يسعل بشدة، ويقول: “أسامة لا هواء يدخل في صدري، لا حياة تتخلل كلامي، فأنا مفارق، مفارق، ولا سبيل لنا غير الفراق”.
بعد المكالمة بدقائق أرسل لي قصيدته الأخيرة: “آهٍ من صدري”، أبكاني قبل أن يودعني وهو يقول: هذه آخر كلماتي: “أشعر أني منكمشٌ.. كيف تراخت أعضائي.. وانفلتت من هيئتها، ما عاد رذاذ هواء يدخل صدري.. كي ينعشني
فأقاوم كي أدخله.. فأحس بأني أرجع للخلفِ، وأني عدت بطيئًا.. لا تقدر قدمي أن تحملني.. أو تعدو بعض الخطواتِ، فهل من كفٍ.. يرفع كفًا.. كيما نمسح ما امتلأ بعيني، من دمعٍ.. وطبيبي يدفع بي حتى أنهض.. كان حسامُ الحاسم.. ينفخ في صدري، يدفع رئتي كيما تنهض من كبوتها.. ما أقسى أن يدخلك دواءٌ.. لا ترغب فيه.. وخراطيم هواءٍ تندفع ببطءٍ.. كيما تدخل في رئتيك”، ويواصل الشحات قصيدته إهداءً للدكتور حسام العيسوي المشرف على علاجه في “العناية المركزة”، إلى أن ينتهي بسكينته عندما قال: “آهٍ ما أجمل ذراتِ هواءٍ.. تسكن في رئتيك.. وتشعرك بأنك مثل الطائر.. تسبح في الملكوت.. وحين يجف هواؤك.. أو يتبخر.. سوف تجف وتسقط.. أو تنفرط كحباتٍ لا تقدر.. أن تجمعها، فأهز بقايا عافيتي.. وأقاوم ضعفي.. عليَّ أقدر أن أتخلص.. من آلام سكنت صدري”.
ورحل محمد الشحات وحيدًا مثلما جاء، فقد خارت قواه، ولم يعد يستجمع ما تبقى من جبروت، أو بعض حياة.
أربعون عامًا من الإبداع وأكثر، “فتعالى يا صديقي الراحل.. أحبك الآن أكثر”.