“بث مباشر” يمكن أن يكتسب قيمة أبعد من مجرد ثرثرة، أكبر من ذلك المستوى الذي يتم عن طريقه استخراج الدردشة على أنها “تضييع وقت”، واختصار الحياة في حقيبة مدرسية، العقلاء في عالمنا لا يتخيلون، ولا يتصورون أن تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى مجرد كلام في الهواء، نكات من ذوات الدم الثقيل، أفكار لا تعبر عن ضمير المجتمع بقدر ما تحاول إخراج مكنونه السطحي، ومحتواه المؤقت، ودوافعه الخفية دفعة واحدة.
“بث مباشر” يمكن أن يدلي بدلوه في كل شيء، في الثقافة، في الفن والآداب، والاقتصاد وهموم الناس، ويمكن من دون أي جهد أو تعثر أن يتم طرح هذه القضايا تمامًا مثلما كان يتم طرحها من خلال أدوات التواصل المسماة بالتقليدية، وتلك التي يُقال إنه عفا عليها الزمن. الثقافة على منصات التواصل وبينها البث المباشر يمكنها أن تُطرح بشكل يناسب المتابع، لا باللغة ولا بالآلية ولا بالكيفية التي يتم من خلالها تعقيد التواصل وليس تبسيطه، تصعيب المهمة على الراغبين في فهم مدلول الثقافة ومغزاها وتأثيرها في البيئة العضوية للمجتمع، وفي تشكيل رؤيته، وفي صناعة هويته، وفي دفاعه عن أمن الوطن والمواطن، ضمير الأمم يكمن في ثقافتها، في دورها الذي تمارسه من أجل إحياء الموروث المرتبط بالعادات والتقاليد، بالتاريخ والتراث، بالحياة السابقة والحياة اللاحقة. الثقافة تعاني، شأنها في ذلك شأن البحث العلمي الجديد، وشأنها في ذلك شأن العديد من القطاعات التي تحاول التكنولوجيا إخفاءها بأيدينا، رغم أنه العِلم، وبالعِلم وحده يمكن أن يتم علاج العديد من مشكلاتنا، وبالعِلم وحده يمكن أن نجد حلولاً لمشكلاتنا الثقافية، إدارة الموروث، وصياغة اللوائح، وفرض التشريعات الحمائية. لم تكن أضغاث أحلام تلك التي تنتمي من خلالها نهضة ثقافية ممكنة، حياة اجتماعية قائمة على التنوير والتثوير وضمان حقوق المؤلف، شارع إبداعي في كل قناة، وفي كل محطة، وعلى كل منصة، جميعها أو بعضها حالة وجودية خاصة ومرحلة استثنائية لا ينبغي أن تعيش بيننا طويلاً.
المثقف ووصفه، الثقافة ومغزاها، المؤسسات الداعمة التابعة وحالتها المتراجعة، أي مسؤول يا ترى هو الذي تقع عليه المسؤولية، وأية مؤسسة تلك هي التي يجب أن ترفع الأحمال الثقيلة، وتركة الفشل المتراكمة، وعناق القوة في كل جيل.
أما البث المباشر، وأما وسائل التواصل، وأما نظريات المثقف الافتراضي في وجه المثقف الحقيقي، فهي في نهاية المطاف بث غير مباشر على منصات مباشرة، حالة إعلامية خاصة لتسويق وضع ثقافي صعب، في جميع الأحوال لن يصح إلا الصحيح، فاستخدام التكنولوجيا لا يعني استهلاكها، والاستعانة بها لا يدل على أن الإنسان فقد قدرته على حق الأداء وحقوق النشر، وسيطرته على وسائل التواصل.
كل شيء في هذا الزمان ممكن بشرط أن نواصل إنتاج الثقافة، وأن نؤمن بأن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يكون له بديل مؤثر، حتى لو كان الافتراضيون منا أكثر قدرة على التواصل الاجتماعي، وعلى التخبط الأزلي، وعلى الوجود عندما ينفصل عن العدم، كلها أو بعضها يتم تأسيسها على قاعدة “ما لا يدرك كله لا يترك كله”.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية