كلما أردت الكتابة عن المفارقات بين الماضي والحاضر، أحار من أي المقارنات أبدأ، فالمشهد لا يعدو عن إثارة الشفقة والحسرة، والمزيد من جلد الذات الذي ينتهي إلى اليأس. فلقد استهلكنا الحديث عن “زمن الطيبين” و “الزمن الجميل”، حيث لا طيّبون في زمن أكثر من زمن، ولا يوجد زمن جميل في حينه، إنما يصبح جميلاً عندما يغدو من الماضي الذي لا يمكننا الرجوع إليه، ولو تأمّلنا “الزمن الجميل” بعيداً عن النوستالجيا، لرأينا فيه من القبح ما يجعل كلمة “الجميل” تتكسر في أفواهنا قبل إطلاقها هكذا بمجانية مفرطة.
إلا أن أحد شيوخ العشائر العراقية سهّل عليّ هذه المهمة، إذ ظهر في برنامج حواري قائلاً: “إننا اليوم نعيش سنة 1924.. وليس 2024”، وضرب على هذا الأمر أمثلة كثيرة، كيف كانت المواصلات قبل خمسين وستين عاماً مرتبة أنيقة نظيفة، وكيف انتهى الحال اليوم إلى التوك توك، والذي هو أحد مظاهر الفقر وتخلف المواصلات في الدول التي يظهر فيها. وكيف كانت مساكن الناس وكيف غدت، والشوارع ونظام المرور واحترامه، كيف كانت في منتصف القرن الماضي. وإن لم يقل الشيخ كل هذا الكلام بحرفيته، إلا أن نظرة عامة، ولا تحتاج إلى التفحّص يمكن عن طريقها أن نعمم التجربة بمسح أفقي على الكثير من الدول العربية – يا للأسف – التي تراجعت سنين في بعضها، وتراجعت دهوراً في بعضها الآخر. فانتشرت الأمية بعدما ما وصلنا إلى قرب القضاء عليها في لحظات تاريخية مفصلية، واتسع التعليم المهلهل المنتمي إلى قرون مضت، وصار شكلياً بأن لدينا مدارس وأدراجا وطلبة وكتبا، أو حتى “آيباد”، ولكن أين المواكبة، بل والتسابق مع الحاضر، وصارت عبارة “غششني” تقال بلا خجل ولا تورّع حتى في برامج الترفيه، لاعتيادها. وانتشرت العشوائيات تحت تغافل أعين الحكومات المنشغلة بتمرير الميزانيات والمساعدات لقططها السمان، بدلاً من إحياء البلاد، والحفاظ على كرامة العباد، بدل أن يعتادوا “القِلّة” من كل شيء، وما يأتي أقلّ مما مضى، وهذا ما يجري في الصناعة، وفي الشوارع، وفي المحاكم، وفي الفنون، وفي كل المجالات.
كان الأمل أن نردد “الغد الجميل”، لأن طبيعة الأشياء تقول بتراكم التجارب والاستفادة منها.. ولكنه تراكم يثقلنا ويجرّنا إلى الوراء.
*كاتب بحريني