العدد 5730
السبت 22 يونيو 2024
banner
كيف مات “الحجاج”؟
السبت 22 يونيو 2024

هذا العام، وكذلك في الأعوام التي مضت.. ما قبل جائحة كورونا كوفيد 19، لم نسمع عن موت الحجاج بسبب التدافع كما كان يحدث في الماضي! وفق الأرقام، فإن عدد حجاج هذا العام بلغ قرابة مليوني حاج، منهم مليون و200 ألف من حجاج الخارج، وقرابة 800 ألف من حجاج الداخل، وتم إبعاد قرابة نصف مليون حاج مخالف منذ بداية الموسم تطبيقًا للقانون فـ “لا حج بلا تصريح”.

لقد تمكنت المملكة العربية السعودية من خلال أجهزتها العاملة في منظومة الحج من القضاء على مسببات ونتائج التدافع عبر تخطيط دقيق للتفويج واستقبال الأعداد الهائلة وتنظيم الدخول والخروج، بل وبناء حائط قوي من رجال أمن الحج يتحولون في “ثانية”، إلى “موانع صلبة” تحمي الحجاج من مخاطر التدافع.. فكيف مات مئات الحجاج هذا العام ولا توجد ولا بقعة واحدة في المشاعر والمناسك شهدت تدافعًا؟ كنت عائدًا صبيحة يوم العيد من رمي الجمرات مشيًا على الأقدام قاصدًا مقر السكن.. أضعت البوصلة بعض الوقت وتحولت إلى حي سكني يتفرع من “شارع صدقي” وقد تكدس فيه مئات إن لم يكن آلاف الحجاج.. رجالًا ونساءً.. شبابًا وأطفالًا، بل بعضهم “رُضع”! الحر كان شديدًا فدرجات الحرارة تراوحت طيلة الموسم بين 45 و49 درجة مئوية، فيما كميات المياه “في القوارير المليونية” تنفذ بسرعة البرق.. تبادر إلى ذهني سؤال عابر: “لولا قدر الله حدث مكروه، كيف ستصل سيارات الإسعاف ورجال الأمن إلى هذا المكان؟”، بل ما إن ترى الجموع سيارة إسعاف أو شرطة، حتى تلوذ بالفرار في تدافع شديد لا تخفى مخاطره.. ثم واصلت طريقي بصعوبة وبشق الأنفس، وكل ما كنت أتمناه في تلك اللحظة “جرعة ماء”.. جرعة فقط ومكانا باردا اتقاء “ضربة شمس” مميتة.

تذكرت قصة الطفل “يحي محمد رمضان” الذي توفي بداية الموسم بعد أن نشرت والدته صورة له وهو على رقبة والده يرتدي الإحرام ويطوف بالبيت الحرام. بعد إعلان وفاته، وجه المئات من المعلقين في السوشال ميديا أصابع الاتهام إلى “الحسد وعيون الحاسدين” التي أودت بهذا الطفل الجميل رحمه الله، فيما الحقيقة، هي أن الطفل توفي بسبب حادث سقوط في المبنى الذي تقطنه أسرته، وربطت الأمر بالأرقام التي أعلنتها مختلف الدول عن أعداد وفيات حجاجها، بما في ذلك “غير النظاميين” الذين دخلوا مكة المكرمة بتأشيرة زيارة منذ فترة تعود إلى أوائل ذي القعدة وبقوا حتى دخول ذي الحجة.

المئات من أولئك الحجاج تحصنوا في أماكن سكنهم، حتى لو أصيب أحدهم بحالة مرضية أو جرح، لن يذهب للحصول على العلاج في أقرب مركز طبي لأنه “مخالف”، ولن يغامر! في الحقيقة، هو سيحصل على العلاج والرعاية دون شك، لكن لأنه مخالف، فسيطبق عليه القانون، عدا ذلك، فإن “السعودية” وظفت كل أجهزتها لحصول كل “إنسان” على حقه في الحياة والسلامة والرعاية، حتى لو كان مخالفًا.

لا يزال السؤال قائمًا بعد كل ذلك التقديم أعلاه: “كيف مات الحجاج؟”.. والإجابة الصحيحة ليست تلك التي نشرها البعض في مقاطع الفيديو عن وفيات الحجاج بسبب الإهمال ومنع الخدمات! شخصيًا رأيت ثلاث جثث ملقاة و”مجهولة”! فلا أسورة معصم ولا بيانات تدل على هويتها، وفي أماكن مكتظة بالحجاج النظاميين والمخالفين من المستحيل أن تصل إليها سيارات الإسعاف.. حتى الشباب المسعفون الذين استخدموا الدراجات الكهربائية لتقديم الخدمات، لم يكن في وسعهم تغطية كل هذا العدد وفي كل تلك المناطق مترامية الأطراف.

الحرارة شديدة.. الأعداد كبيرة وبينهم مرضى وكبار في السن من الجنسين.. حشود ضخمة تعطل وصول الخدمات لاسيما العلاجية.. اكتظاظ مروري يجعل سيارة الإسعاف وطواقمها “في حيرة من أمرهم وسط الزحام”.. حجاج غير نظاميين لا يتبعون حملة توفر لهم الفحوص الطبية والعلاج أولًا بأول.. فرحم الله من توفي من الحجيج، لكن، من الإجحاف والظلم وانعدام الإنصاف إنكار جهود المملكة العربية السعودية أو اتهام أجهزتها بالتقصير.. فالعسكري الذي حمل على ظهره حاجًا طاعنًا في السن، أو الممرضة التي صهرتها الشمس وهي تعالج الحجاج، أو شرطي المرور الذي يوزع الماء البارد ويرشه على المشاة في “طقس قاتل”.. ينتمون إلى “بلد” لا يحرم الإنسان من حقه في الحياة، حتى وإن كان مخالفًا لأنظمة الحج.

- كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية