+A
A-

للقراءة: كتاب "أبحاث في البنية الذهنية"

يمثل كتاب جاكندوف اللغة والوعي والثقافة فتحا علميًا جديدًا على طريق تطوير نظرية شاملة للمعرفة تسمح بفهم أغنى للطبيعة البشرية، وهي نظرية، إذ تتوسل بدراسة اللغة، تتناولها في ارتباطها العضوي بسائر الظواهر المعرفية المشكلة لبيئة الذهن / الدماغ البشري التي تعنى بها مجمل العلوم المعرفية. والكتاب خروج عن التصورات السائدة في حقل النظرية المعرفية عموما واللسانية خصوصا، ومنها تصورات تشومسكي أستاذ جاكندوف، ومن هذا الجانب يمكن تشبيه حال التلميذ مع الأستاذ ، مع مراعاة كل الفروق الواردة، بحال أرسطو مع أفلاطون، إذ كان أرسطو من تلاميذ أفلاطون وتلقى عنه الفلسفة في أكاديمية أفلاطون في أثينا، مثلما كان جاكندوف من تلاميذ تشومسكي وتلقى عنه اللسانيات في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وفي الحالين معا خالف التلميذ الذي هو أكثر إنصانا إلى "عالم التجربة" في "غناه" و"نسبيته" الأستاذ الذي هو أكثر تعلقا . تعلقا بعالم "المثل" و"الكمال " .. ومن مظاهر ذلك خلاف في مسألتين جوهريتين مترابطتين، إحداهما تصميم اللغة وتحديد مكوناتها ومنزلة كل مكون وعلاقة المكونات بعضها ببعض والأخرى علاقة اللغة بسائر قدرات الذهن التي عُدت جزءا رئيسا في البرنامج المبكر للنظرية التوليدية. انسجاما مع تطلعات جيل الثورة المعرفية الأول، بين أربعينيات القرن الماضي وستينياته، الذي رأى في اللغة "نافذة على الطبيعة البشرية". ويوضح الكتاب أن موقف تشومسكي من المسألة الأولى يتلخص في أن التركيب (syntax) هو المكون "المركزي" و"التوليدي" الوحيد في تصميم اللغة، وأن المكونين الصواتي والدلالي مكونان "تأويليان" يستمدان تأليفيتهما (combinatoriality) منه. ويستدل الكتاب مطولاً على أن هذا الموقف الذي اتخذ بلا حجج كافية وتحول إلى ما يُشبه المسلمة، لا تؤيده الوقائع التجريبية، ومنها تلك التي بنى عليها جاكندوف أطروحة الدكتوراه بإشراف تشومسكي نفسه، وكذلك، أثر موقف "مركزية التركيب" هذا تأثيرا سلبيا في المسألة الأخرى، إذ أدى إلى غزل اللغة عن سائر الملكات الإدراكية والتصورية سورية التي تدرسها العلوم المعرفية، ويدافع الكتاب، خلافا لموقف تشومسكي، عن تصميم للملكة اللغوية ذي هندسة متوازية تتفاعل فيها ثلاثة مكونات لغوية (صوائية وتركيبية ودلالية مستقلة بأولياتها ومبادئها التأليفية وذات قدرات توليدية متساوية، وما هذا التصميم في اللغة سوى مثال التحقق تصميم عام هو تصميم المعرفة البشرية الذي تُشكل تصاميم سائر الملكات غير اللغوية أمثلة أخرى لتحققه والكتاب غني بالاستدلال على ما يسمح به هذا التصميم من دمج طبيعي وسلس للغة في بيئة الذهن / الدماغ الشاملة. سواء أكان ذلك من طريق ربطها بقضايا معرفية - عصبية كالوعي وتحليل اللغة وعلاقتها بالإدراك وتطورها، أم من طريق دراسة عدد من الملكات الجوهرية، كنظرية الذهن والمعرفة الاجتماعية التي تهم تخصصات متعددة منها علم النفس وعلم الاجتماع المعرفيان بفروعهما وعلم الأعصاب والإناسة المعرفية والفلسفة وغيرها.

الموضوع الشامل للكتاب استكشاف البنيات الذهنية المتضمنة في عدد من المجالات المعرفية هي: اللغة والوعي والعمل المركب ونظرية الذهن والمعرفة الاجتماعية الثقافية.

يرسم الفصل الأول الإطار الحاسوبي للعمل، ويستدل على أن البنية الذهنية نسق صوري قالبي، تُحدّد علاقته بالدماغ ظواهر مثل التحليل والتعلم والقالبية، ويدرس الفصل الثاني الأسباب الرئيسة التاريخية والعلمية، التي انتهت بعزل اللسانيات التوليدية عن باقي العلوم المعرفية. ويوضح كيف تعلّقت هذه الأسباب العلمية، كمركزية التركيب وفصل المعجم عن النحو، بافتراضات تخص هندسة اللغة، ورثت بدون مساءلة، عن البدايات الأولى للنحو التوليدي. كما يدافع عن البديل النحوي المتمثل في الهندسة المتوازية باعتبارها تصوراً شاملاً لبنية اللغة، أكثر انسجاماً مع طبيعة العلاقة بين التركيب والصواتة والدلالة، ومع البيئة المعرفية التي تشكلها بنية الذهن / الدماغ بأنساقها الإدراكية والمعرفية.

وبناء على ارتباط نظرية اللغة بقضايا علم الأعصاب المعرفي، تمتد أسئلة البنية الذهنية إلى ما وراء القدرة اللغوية. ومن ثمة يتناول الفصل الثالث قضايا الوعي والبنيات الذهنية الوثيقة الارتباط بطابع التجربة. ويبين الفصل كيف أن تناول هذه القضايا من خلال اللغة يساعد على تقييد النظريات الممكنة للوعي. كما يبين أن اعتماد البنيات الذهنية في هذا التناول، يمكن من التدقيق في تخصيص البعد الفينومينولوجي، وتحديد مضمون العلاقات بين اللغة والفكر
والوعي.

ويدرس الفصل الرابع بنية العمل ومبادئ تفكيكها، مقيماً بذلك موازاة دالة بين القدرة على العمل المركب والقدرة على إنتاج اللغة. ومستنتجاً حصيلة أخرى تتعلق بما هو خاص بالقدرة اللغوية وما ليس خاصاً بها.

أما الفصل الخامس فيهتم بمجموعة من القدرات الذهنية التي تقوم عليها المعرفة الاجتماعية الثقافية. ويدافع عن فكرة جوهرية مفادها أن الثقافة، مثلها في ذلك مثل اللغة، يتعلمها الأفراد بناءً على أساس فطري، وما يميز هذا الدفاع من الأدبيات المعاصرة في هذا المجال، في علم النفس التطوري والأناسة المعرفية، هو المعالجة الصورية للتصورات المجردة في المعرفة الاجتماعية الثقافية. ومن نتائج هذه المعالجة الصورية المساعدة على تمييز القدرة الاجتماعية في حد ذاتها من قدرات مرتبطة بها كنظرية الذهن.

وتبلور الفصول من 6 إلى 11 التحاليل الصورية المفضلة لتصورات المعرفة الاجتماعية ونظرية الذهن. فيعمل الفصل السادس على رصد أفعال الإدراك مميزاً بعضها الذي يرتبط بنظرية الذهن من البعض الآخر غير المرتبط بهذه القدرة الذهنية؛ ومبيناً أثر هذا التحليل الدلالي في ربط الموضوعات الدلالية للأفعال بمواقع الوظائف التركيبية.

ويشمل التحليل في الفصل السابع المحمولات العاطفية / التقييمية، وتمييز التقييمات الموضوعية الظاهرة من التقييمات الذاتية. ويهتم الفصل الثامن بالقصد والعمل الإرادي، وبعلاقة القصد بالاعتقاد كما يهتم بالتخصيص الصوري لمفهوم الموقف القصدي، وعلاقته بنظرية الذهن، وكذلك للعمل والقصد المشتركين اللذين يعتبران أساس مفهوم التعاون. ويتناول الفصل التاسع موضوع القيم بكل أنواعها، كقيمة عمل أو موضوع معينين لدى فرد مخصوص، والقيم المعيارية للأعمال أي الأخلاق وآداب السلوك، الخ.)، وقيمة الفرد المعنوية، كما يميز القيم الموضوعية من الذاتية. ويعمل الفصل التاسع على دراسة نتائج هذا التمييز، والمنطق الخاص الذي يربط بين كل أنواع القيم. ويُطبّق الفصل العاشر منطق القيم لرصد مفهومي الإنصاف والمبادلة. ويميّز مبادلة قائمة على التزام حر، من تبادل متفق عليه قائم على التزام مشترك. ويقف الفصل الحادي عشر على الحقوق والواجبات وأهميتها في التنظيم الاجتماعي، ودورها الحاسم في نشوء الحوافز الرئيسة للحكم والدين على حد سواء. ويهتم الفصل الثاني عشر بالموضوع الشامل المتعلق بالسمات التي يختص بها الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى.