+A
A-

"EL TOPO" رؤية سينمائية بأسلوب سريالي لأكسندرو جودوروسكي

الأسبوع الماضي كان فرصة هامة للاطلاع على نوع مختلف من السينما الجادة والملتزمة التي تقدم قضايا الانسان بجرأة وصراحة، وهي السينما المكسيكية المليئة بالجماليات الخاصة والملتحمة بالحياة الاجتماعية، فإذا كان فيلم " لون الرمان" للمخرج الأرميني سيرجي بارادجانوف وصف بالمعجزة السينمائية وبلوحة تجريدية رائعة الجمال، فإن فيلم "El topo" للمخرج المكسيكي الكسندرو جودوروسكي يمثل لوحة سريالية بمعناها التقليدي بمساحات متعددة الاشكال. هذا الفيلم الذي كتبه ومثل فيه أيضا جودوروسكي، يتحدث عن " El topo" وهو اسم حيوان يفقد بصره عندما يتطلع الى الشمس، عن رؤية حادة لعالمنا الذي يراه غارقا في طوفان من الدم والظلم، وهو يعبر عن هذه الرؤية بأسلوب  سريالي تمتد جدوره في لوحات سلفادور دالي ، والى السينما البصرية والفن البصرى والموسيقى.
وينقسم الفيلم إلى جزءين : في الجزء الأول نرى "التوبو" فارسا يرتدى ملابس سوداء ويمتطى صهوة جواد أسود وفوق كتفيه يتعلق طفل هو ابنه  . أما في الجزء الثاني فنرى "التوبو"  في صورة المخلص وقد عاد من جديد في ماريشال سيتي . اما الفارس الأسود فنراه وهو ينقذ الناس من حكم الجنرالات ومن مذابحهم الدموية، ولكنه يستسلم لأغراء أمرأة حسناء فيلقي بطفله الى الرهبان ، ويمضى معها في الصحراء ، وبالتدريج يتحول الفارس الرحيم الى طاغية يقتل كل من يعترض طریقه ، وتكون نهايته ، وهو الذي لم يهزم ابدا على يد فارسة ترتدى الملابس السوداء هي الأخرى رغبة منها في الحصول على المرأة الحسناء التي ترافقه.
أما المخلص فهو لا يعدو بالنسبة لسكانها غير رجل أبله يضحكون منه ، ولا يجد غير امرأة مجذومة لا يزيد طولها عن نصف متر ترعاه وتحبه فيبادلها الحب ويعيش معها في كهف المجذومين المنبوذين في الجبل بعيدا عن المدينة،  
وفي مشهد من أقوى وأروع المشاهد في تاريخ السينما  وهو بغير شك أكثر المشاهد عنفا على الاطلاق أيضا، يخرج سكان ماريشال سيتى ويطلقون النار على المجذومين حتى يبيدوهم عن آخرهم ، فيحمل المخلص السلاح ويقتلهم فردا فردا ويظل يواصل القتل رغم الرصاصات التي تنهال عليه وتمزق جسده ، بينما رفيقة حياته تعاني آلام المخاض.
ان هذا الفيلم المبهر ما هو الا صرخة غضب عبقرية تنتزع الامل انتزاعا من قبضة الظلام، ومحاولة للامساك بفوضى العالم الذي نعيش فيه، بل انه ملف اسود عليه بقعة بيضاء. هجاء لاذع شرس يتجاوز كل حدود الإثارة، ونسف كل الحواجز التقليدية ،وكل لقطة من لقطاته فيها من السحر والجاذبية ، مثل لقطة خروج الخنازير من حضيرة على شكل مثلث ويقف امامها الرجل، ولقطة ربط شعر المرأة بقدم رجل، واللقطات المسكونة بألوان الملابس، ولقطات المطاردة، واللقطة القريبة على البالون البرتقالي وهو يفرغ منه الهواء، وكان هذا ايعازا لبدء اطلاق النار بين المخلص والأخرين،  وكذلك الأستخدام الحاذق للقطة الطويلة جدا المكونة من مشهد واحد، التي تتيح لها الكادرات العامة اندماجا حقيقيا في حيز المشهد ،واللقطات المتراجعة والصور المضيئة والمظلمة معا وغير ذلك،ويستمد الفيلم كل قيمته الفنية من هذه المشاهد القوية.
تختلف الأساليب في السينما وتتنوع، ولكن الرابط الوحيد الأساسي بينها يظل دائما المخرج العبقري والمبدع مثل الكسندرو جودوروسكي، الذي قدم لنا فيلما متكاملا بكل القوانين ترك اثرا عميقا في مسار السينما المكسيكية والعالمية، ولا يسعك كمهتم بالسينما الا ان تدونه في دفتر يومياتك.