العدد 5659
الجمعة 12 أبريل 2024
banner
ويبقى رمضان فينا..
الجمعة 12 أبريل 2024

لِشَهر رمضان المبارك مكانة في قلوبنا، فقد كان النبي يدعو ربه أن يبلّغه هذا الشهر الكريم لما يتهيّأ فيه للمسلم من الطاعات والبركات والخير العميم، وهاهو شهر رمضان المعظّم من عامنا هذا يودّعنا تاركا في أنفسنا حسرة وفي عيوننا عبرة، هاهو سريعا يتسلّل لِواذًا من بين أيدينا، كما هي عادة الأيّام الطيبة والأوقات المباركة، ولكنّ أسئلة لا تفتأ تلحّ عليّ وخواطر عديدة تحضرني عن رمضان وأبعاده الثاوية في الصيام.
الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام، عبادة تجعلك في علاقة مباشرة بينك وبين خالقك، فلا أحد من البشر يعرف مَن الصائم ومن المفطر، إنها طاعة عنوانها مراقبة الله تعالى، مراقبة تجعل المسلم يترك طعامه وشرابه وكل الشهوات طمعا في مرضاة الله، أو بالأحرى مراقبة ذاتية تستحضر الله في كل لحظة؛ إذ إنّ كلّ العبادات الأخرى تقع تحت مجهر الآخر ويمكن أن يدخلها الرياء، إلا الصيام الخالص لله ففيه مراقبة ذاتية، فيه سلام داخلي يجعلك ترتقي إلى درجة الإحسان بـ (أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك). إنّه درس الرقابة الذاتية؛ فروح رمضان ورَوْحُه ورَيْحانه يكمن في هذا المبدأ العزيز بأبعاده السامية التي تجعلك تستحضر القرب الرباني: حالة لا تحلو إلا لمن حلّ فيها واستشعرها، بل لعلّها من أشدّ لحظات العبادة قربًا إلى الله، فيزداد شعورك بقربه منك كلما انفردت بنفسك في يوم رمضان، ويتعاظم فيك ذلك الرقيب الداخلي توهّجًا وتتضاعف مراقبتك لذاتك فتشعر بقوّتك بإنسانيّتك بتميّزك الحقيقي وقدرتك على مجابهة الشهوات، فيحملك ذلك على أن تحفظ الله تعالى في كل لفظة وكل لحظة وكل خطرة. نعم روح رمضان في هذه المراقبة الذاتية، وهذا في نظري معنى استمرار رمضان فينا بعد انقضاء الشهر الفضيل، ففي الوقت الذي تلحّ فيه الخطب الدينية على ضرورة أن تستمرّ معنا العبادات (النوافل والصدقات والأذكار والقيام والتهجد وغيرها...) فإنّ معنى المراقبة الذاتية يكاد يغيب في هذه الخطب والتوجيهات التي تسبق رمضان وتتخلّله وتعقبه. فماذا لو استمرّ فينا رمضان/ الرقابة الذاتية؟ ماذا لو استمرّ في عملنا واستحضرنا عين الله التي تحرسنا، وشعرنا أنّ الله علينا رقيب، ومن قلوبنا قريب، يسمع أقوالنا، ويرى أفعالنا، ويعلم أحوالنا... ماذا لو استمرّت فينا هذه الإرادة الذاتية التي صمدت معنا شهرًا كاملاً توجّهنا بترك شهواتنا من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس؟ ماذا لو حلّت فينا روح رمضان في صِلاتنا وصَلاتنا فتركنا الشكل واهتممنا بالجوهر؟ ماذا لو استقرّ فينا رمضان بهذا المعنى واستوطن حياتنا؟
نعم، إذا ارتقى العبد بصيامه إلى مقام المشاهدة والمراقبة في رمضان فإنّه بذلك يكون قد درّب نفسه على المشاهدة والمراقبة في كل تصرّفاته؛ لأنه يستحضر نظر الله إليه، واطلاعه على علانيّته وسرّه، فتنمو فيه الرقابة الذاتية وتلك خطوة من خطوات تطوير الذات والارتقاء بها لمعرفة نقاط الضعف قصد معالجتها ونقاط القوة قصد توظيفها؛ فيكون بذلك رمضان فرصة لبناء الذات وتطويرها وتأهيلها من أجل تغيير جذري في حياتنا طوال عامنا.

كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .