لم تكن أساطيرًا لشخصه، رغم أنه باعث لسيرتها، لأصحابها العظماء، جمال عبدالناصر، طه حسين، نجيب محفوظ، سعد زغلول، يوسف إدريس، أحمد شوقي، جمال حمدان، وغيرهم، هم أساطير لوطن عظيم كانوا يطلقون عليه "مصر"، وكان المستشرقون الزائرون يسمونه "أم الدنيا"، و"أرض الكنانة"، و"هبة النيل"، وغيرها من الأسماء الخالدة.
الروائي والصحافي القدير محسن عبدالعزيز لم يخلق شيئًا من العدم، ولا أسطورة من بطن الشاعر الكبير، ولا الروائي الرحالة، لكنه المكتشف الماهر لحدث في الطفولة، ولأثر قاد صاحبه إلى العرش، لعابر سبيل يحفر مجراه في النفس الأمارة بكل شيء، ولعقل حصيف يتصرف وكأنه حامل كل الألقاب، ومالك كل النياشين. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه في مطلع المقدمة التي تحلى بها "أساطير شخصية": "هناك حادثة متكررة تعود من آن لآخر في حياة كل إنسان، يبتعد الحادث ويقترب، ثم ينتظم في خيط يميل أحيانًا، يرتخي أحيانًا أخرى، ثم يشتد، وفي كل الأحوال نمشي عليه، وأية محاولات للإفلات أو الخروج من أسره، فإن الحبل يلتف حول الساقين حتى تتحقق الأسطورة كما ظهرت علاماتها منذ الطفولة". ومنذ الطفولة كان صراع الآلهة الصغيرة على أشده ودراما التاريخ تتفاعل مع فصولها المستقرة.. ذاكرة واحدة تكفي أم ذاكرتان، لتدفع بالسلوك البشري للعظماء منذ نعومة أظافرهم إلى حد السيف. الطفلة عزيزة في "أساطير شخصية" كانت أسطورة الزعيم مصطفى كامل الذي أحبها في طفولته وكبر الحب بينهما، ولكن الرجل الإنجليزي اللعين جاء ليأخذ منه حبيبته، فكان مصطفى كامل يحول بين هذا الأجنبي وحبيبته "عزيزة مصر"، من هنا جاءت الخطبة ضد الإنجليز ملتهبة كقلب عاشق، لتصنع بذلك أسطورته في بعث الروح الوطنية المصرية بعد هزيمة الثورة العرابية. أما الشاعر أحمد شوقي فقد ولد وفقًا لـ "محسن عبدالعزيز" وأسطورته معه، فقد كان ينظر دائمًا إلى البعيد، عندها قالوا إنه يعاني عيبًا خلقيًا بينما كان يبحث أمير الشعراء عن القصائد والمعاني، حتى أنه عاش طوال حياته يلتقط الألحان والأوزان والكلمات الرنانة من المجهول، لا يفعل شيئًا غير الشعر، ولا ينطق بحرف إلا وكان قادمًا إليه من بعيد أو هابطًا عليه من السماء.
الإمام محمد عبده، إمام المصلحين، كان يكره التعليم ودائم الهروب من المدرسة، يجبره أبوه على العودة إليها، وقضى حياته الأولى بين كر وفر، هذا هو ما حدد أسطورته، وما رسم مستقبل حياته، وما أدى إلى إجباره على الفرار أو النفي مرتين، مرة إلى قريته، وأخرى إلى خارج مصر، وبين أسطورة الكر والفر أصبح الإمام محمد عبده أهم عالم مستنير في العصر الحديث.
ومثلما ولد أحمد شوقي بأسطورته، جاء الأديب الكبير توفيق الحكيم من رحم أمه بأسطورته، الغريب في تلك الأسطورة أنه جاء إلى الدنيا من دون أن يبكي حتى ظن المقربون أنه ميت، وعندما نظروا إليه وجدوه يضع إصبعه في فمه وينظر متأملاً المصباح المضيء، منذ ولادة الحكيم وهو يضع لنفسه برجه العاجي، وعندما كبر راح يتكلم مع الحمار والعصا، وكلها أقنعة وسياجات تحميه من الآخرين من فضولهم وتتبعهم له، حكامًا كانوا ومحكومين.
أما محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، فقد نجح وهو يافع في أن يجتاز سباقا بالمجداف في بحر متلاطم الأمواج ليصبح السباق أسطورة حياته، يقضي أيامه لاهثًا، يصارع ويتآمر، يخطط ويقتل، ينجح كثيرًا ويفشل قليلاً، حتى تمكن من تحقيق أسطورته "سباق دائم مع الحياة"، ومعارك دائمة حتى النهاية، وعبور بمصر من عصور الظلام إلى المدنية، ليصبح بذلك باني مصر الحديثة.
أساطير محسن عبدالعزيز التي صدرت عن "بيت الحكمة" للنشر لم تنته؛ فقد ذهب بها إلى كوكب الشرق أم كلثوم وإلى الشاعر صلاح عبدالصبور وقصته مع ديوانه الأول "الناس في بلادي"، أساطير وأساطير ومعجزات أخرى قرأتها على عجل وأنا أتصفح الكتاب المثير، لمؤلف مثير في وطن كبير.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية