العدد 5525
الخميس 30 نوفمبر 2023
banner
البركة تبدأ بـ “الأم”
الخميس 30 نوفمبر 2023

قبل يومين، وبينما كنت أقف عند “كونتر” سوبر ماركت معروف، لفت انتباهي رجل كهل، يقف مع زوجته الطاعنة بالسن خلفي، وهما ينتظران الدور لسداد قيمة مشترياتهما بـ “ترولي” مكدس بالأغراض. 
فما كان مني إلا أن باشرت بمساعدتهما، برفع الأغراض وتسعيرها، وإعادتها مرة أخرى لمكانها بـ “الترولي” وهما يتطلعان إليّ بصمت، وحزن.
لحظات قبل أن يعلق الرجل “مشكور يا ولدي، وما قصرت وأنت تساعدنا كنت أقول في قلبي، ليت الله رزقني بولد مثلك”، تطلعت إليه بحرج وأسف، ظنا مني أنهما محرومان من الأولاد.
قبل أن أقول “الله لا يظلم عباده، وإذا ما رزقكم بالأولاد في الدنيا، فسيكون العوض منه بالآخرة كبيرا، هذه هي سنة الله في خلقه، وهذا هو عدله، بلاء في الدنيا، وخير في الآخرة”.
تطلع إليَّ بصمت، قبل أن يقول “أنا عندي أولاد، وبدل الواحد ثلاثة، لكنهم عاقون لا يسألون عني، ولا عن أمهم اللي ترقدت بالمستشفى أكثر من أسبوعين وأجرت عملية جراحية”.
تطلعت إلى زوجته، التي كانت تسير بخطوات متثاقلة، قبل أن يقدم لها أحد موظفي السوبر ماركت كرسيا جلست عليه، في حين أكمل هو الحديث قائلاً “أحيانا يكون الحرمان من الأولاد ليس بعدم الإنجاب، وإنما بالعقوق، فهم أحياء واقعا، لكنهم أموات في الحقيقة”.
وتقودني هذه القصة المؤلمة بالمقابل إلى صديقي الدكتور رضا، هذا الرجل الكريم، الذي أفنى حياته كلها في طاعة والدته المريضة، فانعزل ببساطة عن محيطه الاجتماعي، وترك أصدقاءه، وهواياته الخاصة، واهتماماته، واعتزل السفر، لكي يوليها جل وقته.
ورضا لم يتزوج حتى الآن، ولم يُنعم عليه بالأولاد، وحُرم حتى من أي يحلم، لأن جل أمانيه اليوم، وكل يوم، هو طاعة أمه، وضمان أن يوفر لها أسطوانة الأكسجين اليومية، والأدوية العلاجية، وراتب الممرضة التي تسهر عليها، وتتابع احتياجاتها بالليل والنهار.
أن تترك أحلامك، لأجل حلم غيرك، لهو أمر عظيم، لكن العظمة تزيد أكثر وأكثر حين تترك ذلك لأجل والديك، وبالذات الأم، الذي أوصى بها سيد الخلق ثلاث مرات متتالية؛ لأن منها تبدأ “البركة” في الحياة، وبها تنتهي.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .