ليس من السهل على قامة فكرية وعلم من أعلام الفكر والسياسة بمصر والعالم العربي مثل الدكتور أسامة الغزالي حرب، أن يقوم عبر شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد بالتراجع عن موقف اتخذه على امتداد عشرات السنين، وسجله بالتأكيد في العديد من الدراسات والمؤلفات، وأن يعلن على الملأ بحزن وألم واضحين جراء ما يشاهده ويتابعه من مآس غير مسبوقة في تاريخ البشرية المعاصر يتعرض لها أبناء قطاع غزة، وأن تعتصره الحسرة والحرقة ربما على ما اكتشفه من خطأ في موقفه السابق المؤيد للتطبيع، وتقديره أنه يمكن إقامة وبناء علاقات سلام تعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
الدكتور الغزالي حرب ممن أثروا ـ ولا يزالون ـ الساحة السياسية بما تولاه من مهمات غاية في الأهمية والقيمة في مجال الفكر والعلوم السياسية، وممن يساهمون بقوة أقلامهم في تشكيل الوعي والعقل السياسي لكثير من الشباب، وربما لهذا السبب تحديدًا أي عظم المسؤولية ومعرفته بقدرها كان صريحًا وشفافًا مع نفسه أولا ثم مع تلاميذه ـ وأنا واحد منهم ـ والرأي العام المصري والعربي وقدم اعتذاره علنًا وليس في الغرف المغلقة أو من وراء الستار لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني، وهو اعتذار شجاع ويعرضه لخسارة العشرات من الكتب والمقالات والدراسات التي كتبها محملة بمواقف وآراء تيقن له الآن عدم صحتها، وعليه إعادة ملء هذه الصفحات بالآراء والمواقف التي ثبتت له كي يعدل آراء واتجاهات الأجيال التي تأثرت وتبنت نفس الآراء السابقة.
أيامًا معدودات نسفت موقفًا صلبًا ورأيًا راسخًا لدى الدكتور الغزالي، حيث بناه واستقر إليه ـ كما يقول هو ـ بعد نصف قرن من المعايشة ومئات الدراسات والأبحاث العلمية والمقالات والمقابلات الصحافية، والزيارات الميدانية، لكنه تراجع عنه في لحظة مراجعة للنفس وتقييم للوضع الراهن، ليقدم درسًا عظيم الأهمية لكثيرين لا يمتلكون هذه الشجاعة والمسؤولية ويؤثرون مواصلة غطرستهم والدفاع عن آرائهم ومواقفهم حتى لو تبين لهم خطأها بعشرات الشواهد والأدلة والبراهين.

كاتب مصري