العدد 5524
الأربعاء 29 نوفمبر 2023
banner
هكذا عشق العميد باريس
الأربعاء 29 نوفمبر 2023


كان لمدينة الأنوار باريس تأثير كبير في حياة وتكوين عميد الأدب العربي طه حسين الثقافية والفكرية والروحية،حتى يمكننا القول بأنه لو لم يُقيّض له زيارتها والإقامة فيها للدراسة لنيل شهادة الدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون، لما كان طه حسين هو طه حسين الذي نعرفه، فهي المدينة التي عشقها وتنفس هوائها الثقافي والروحي، وهي المدينة التي تجرأ بكل شجاعة على البوح بحبه لإحدى فتياتها على سبيل المجازفة دون أن يستيقن بأدنى أمل في أن يُوفق في مجازفته،لكن مغامرته تتكلل بالنجاح ولتكون هذه الفتاة، سوزان بريسو، التي تزوجها في 1917، والتي كانت مساعدته في القراءة والكتابة الدراسية هي الأُخرى ذات تأثير محوري في حياته وتكوينه الثقافي والروحي على امتداد حياته التي قضاها بعد عودته إلى مصر أواخر العقد الثاني من القرن العشرين(1919) حتى رحيله عن عالمنا في أوائل العقد الثامن( 1973). 
وفي تعبيره عن عشقه لباريس يمهد العميد لذلك باستعراض أسباب عشق الناس لها:"... هناك من يحب باريس لما يجد فيها هذه الحركة العنيفة، حركة الحياة العملية. وهناك من يحب باريس لأن فيها"مونمارتر". وهناك من يحب باريس لأن فيها للفرد حرية لا تعدلها حرية، و ضروباً من اللذات منها المباح ومنها المنكر، منها ما يستطيع الإنسان أن يعلنه للناس جميعاً، ومنها ما يحب الإنسان أن يخفيه حتى على نفسه. وهناك وجوه أخرى لا يكاد يبلغها الاحصاء. ولكنها كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة هي أن شعوب الأرض قد تحب فرنسا وقد تكرهها، وقد تكون سلماً لها أو حرباً عليها، ولكنها كلها مجتمعة على حُب باريس وإيثار الإقامة فيها حيناً من الدهر وشطراً من العمر". 
ثم ينتقل طه حسين لوصف المكان الأثير على قلبه في باريس ليصفه بأنه أقدس مكان في العالم الحديث وأنه الرأس المفكر لهذا العالم، ويقصد به "الحي اللاتيني":" أنا أعشق هذا الحي و أهيم به هياماً، وأعلن في ضعف وتواضع أني لا أكاد أحس نفسي فيه، ولا أكاد اشعر بأني أمشي في شوارعه حتى اشعر أن قد واستأنفت كل ما فقدت من نشاط. فأنا أتنفس بحرية، وأفكر في حرية، وأتحرك في حرية. وأنا أحب الحياة وأحرص عليها واتمنى منها المزيد". ثم يجول بنا العميد للون آخر من ألوان الحياة التي عشقها في باريس، ألا هي أندية اللهو والضحك وبضمنها، ما يعبّر عن تنفيس الجماهير الفرنسية في سخطها على حكامها لما تجده فيهم من ميل عن الممارسة الديمقراطية الحقة. وفي هذا يقول العميد: 
"إذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة". 
ثم يستطرد قائلاً: سلني عما يميز الديمقراطية حقاً، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكوماتها بل على حساب أبطالها. فإذا دليلاً نائباً بصدق هذا التعريف فاذهب إلى باريس واختلف إلى أندية اللهو فيها واسمع إلى ما يُقال عن "هريو" و " دومرج"، وعن "بوانكريه" و " ملران"، وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية وتهالك ضحكاً من وزرائها و رؤساء جمهوريتها، أستغفر الله بل من علمائها وكتّابها. ومهما أنس فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس، ورأيت ابتهاج الجماهير لهما. في إحداهما مقارنة بين أمعاء المسيو هربت رئيس الوزارة الفرنسية القائمة، وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون".

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .