يقدم لك الحياة لا كما هي عليه ، بل كما يتمناها
فديريكو فلليني.. سينما العثور على الإنسانية الضائعة المهانة
تبهرني لغة المخرج فديريكو فلليني السينمائية التي يمكن بواسطتها اصطياد المشاهد بسهولة، وهذا ما اكسبه شخصية خاصة به متميزة مستقلة في عالم السينما.
فلليني يقدم لك الحياة لا كما هي عليه فعلا، بل كما يتمناها أو يتخيلها، والكاميرا على الدوام أسيرة الموقف والناس، وتحتوي معظم أفلامه على عمق إنساني لا مثيل له وكأنه يريد العثور على الإنسانية الضائعة المهانة المستغلة وسط ظروف الحياة.
في فيلمه " إني أتذكر" أو " أماركورد" الحاصل على جائزة الأوسكار عام 1974 يطرح فلليني لغة عالمية استمدت عالميتها هذه من واقعيتها، وإنسانيتها اللامتناهية، انه يتوغل بعيدا في أعماق النفس البشرية والسلوك الإنساني، وإذ به يصل إلى غايته، فإنه يبلغ النقطة ذاتها التي يمكن أن يضع أصبعه عليها أي إنسان مهما كان أصله وفصله.
إن فلليني يستعرض في هذا الفيلم ذكرياته،قد تكون بعيدة بعض الشيء، ترجع الى أيام الطفولة والصبا الأولى، لكنها عالقة في ذاكرته، راسخة في اعماقه، وهو لا يتذكرها بمقدار ما يعيدها الى الحياة مرة أخرى، يعيشها ثانية من جديد. وبالطبع فإن المرء لابد ان يلاحظ منذ اللحظات الاولى ان الفيلم لا يقدم سيناريو بالمعنى التقليدي المفهوم عادة، إذ انه يقدم مجموعة قصص قصيرة تربط بينها وحدة الزمان والمكان، إضافة الى الذاكرة الديناميكية الحافلة عند فلليني.
صور ترجع في تاريخها الى العشرينات المتأخرة والثلاثينات، فترة نهوض الفاشية في إيطاليا، ولعل هذه الخلفية السياسية للفيلم ، على الرغم من ان فلليني لم يحاول ان يفرض شيئا ما علينا، فلقد آثر ان يعرض الصور التي تختزنها ذاكرته من اكثر زوايا إنسانية وواقعية، وهذا لايعني بالطبع انه كان محايدا بالنسبة الى موضوع حساس كالفاشية، كل ما هنالك انه عرض مايريد، من المنظور الإنساني الذي يختلط فيه التهكم والسخرية، بأشد حالات الحنان الكوني، يتذكر صباه في المدرسة، ورفاق الصف وعبثهم. سباق السيارات داخل الحي، الاعترافات في الكنيسة، المرأة البدينة، استعراضات الفاشست في شوارع روما.
لم يكن فيلم " إني تذكر" فيلما بالمعنى المبذول، كذلك لم يكن مجموعة قصص قصيرة وحسب، كان قصيدة شعرية كتبها فلليني بطريقته، بالصور المتحركة، والموسيقى عنده نغم واحد يظل يعزف على تنويعاته طوال الفيلم.
كتب أمين صالح في كتابه " شعرية السينما":"
"لقد نجح فلليني في تحويل عالمه الذاتي، وتاريخه الخاص إلى مشهد سينمائي متصل ولا نهائي، معتمدا في ذلك على الذاكرة، الأحلام، أحلام اليقظة، الهذيان".
أما فلليني فيقول عنه نفسه: "كل فيلم يمتلك طقسه الخاص، ويّعين مطالبه الخاصة، ويعرض طريقة الاقتراب منه وفهمه، إنه مثل صداقة، مثل علاقة إنسانية، مثل حب..ليس ثمة قوانين. من جهة أخرى يبدو إني قد التقيت بكل أفلامي في أكثر السبل طبيعية، كما لو أنها كانت بداخلي منذ زمن".