العدد 5251
الأربعاء 01 مارس 2023
banner
جيربير الفرنسي.. جسر بين العرب والغرب
الأربعاء 01 مارس 2023

يطلق الكاتب والدبلوماسي الأميركي السابق "مايكل هاميلتون مورجان" في كتابه المعنون "من مكة إلى الميتاداتا"، على البابا الروماني الكاثوليكي "سيلفستر الثاني" لقب البابا الذي نقل الرؤية المستقبلية العربية الإسلامية إلى أوروبا.

ففي فرنسا، ومع أواخر العقد الخامس من القرن العاشر الميلادي، ولد صبي صغير يُدعى "جيربير"، بذكاء استثنائي رغم فقره المدقع، وقد تمكن من شق طريقه إلى دير القديس جيرالد أورياك، عندما ناهز السابعة عشر عام 945، وهناك أصبح راهبًا مبتدئًا لدى الكنيسة، وقد تميز عن رفاقه الأكبر سنًّا وعن معلِّمِيه بطبيعته المجدة والمحبة للاستطلاع، وولعه بالمخطوطات والمعرفة، وعندما بلغ 21 عامًا زار الدير نبيل من منطقة كاتالونيا المسيحية الإسبانية يُدعى الكونت "بوريل الثاني" من برشلونة.

أقنع بوريل، الرهبان الفرنسيين، باصطحاب الصبي "جيربير" معه إلى كتالونيا في إسبانيا، لدراسة العلوم والرياضيات، ووافق الكونت وعهد به إلى رعاية الأسقف "أتو"، وسمح له بدخول دير "سانتا ماريا دي ريبوري" الأكثر ثراءً.

كانت اسبانيا نفسها، وكذلك إيطاليا وصقلية على نطاق أصغر تحتل مكانة بوصفها مركزًا لانتقال الأفكار والاكتشافات العربية إلى أوروبا، وفي حين سيطر الأمويون على الجزء الأكبر من اسبانيا والبرتغال، صمدت مملكتا قشتاله وليون المسيحيِّتان في الشمال، وكانت برشلونة التي ظلت في وضع أطلق عليه الثغر الأسباني، مسيحية أيضًا. أصبحت مكتبة سانتا ماريا دي ريبوري الأكثر ثراء وتنوُّعًا وطن "جيربير" الجديد، سيما أن مكتبة دير أورياك المتواضعة لم تكن تضم سوى 400 مخطوطة، في حين كانت مكتبة دير سانتا ماريا دي ريبوي المركز الثقافي في كتالونيا، وقد كانت نسخة مسيحية مصغَّرة من بيت الحكمة، وغيره من مراكز العلم في العالم العربي.

اكتسب "جيربير" الكثير جدًّا من العلوم والمعارف التي وظَّفها في كتابة أطروحاته الخاصة، بناء على الاكتشافات العربية التي ربما تمكَّنت من الانطلاق إلى العالم الواسع أو ظلَّت قابعة في موطنها.

كان هدف "جيربير" الأسمى، مواصلة اكتشافاته الفكرية، وفي الوقت نفسه تدرج في المناصب حتى وصل إلى منصب كبير أساقفة ريمز (1995م)، ليصل إلى منصب البابوية بصفته أول فرنسي، وقد عُدَّ من أعظم المفكرين والمثقفين والمجددين الذين شغلوا هذا المنصب في تاريخ الكنيسة.

لقد كان سابقًا لزمانه ومكانه بسنوات عديدة، وكما الحال مع جميع المجددين، أدى تفكيره العلمي المتقدم، وشغفه المحموم بجلب اكتشافات العرب ذات الطابع المستقل إلى أوروبا، إلى اجتذاب أعداء جدد له، وحوَّله إلى شخصية ظلت موضع جدل طوال الألف عام التالية.

غير أنه في عام 1602، عثر الكاردينال "بورينوس" أمين المكتبة البابوية، على مجموعة من رسائل البابا "سيلفستر"، واستنتج من قراءتها أنه لم يكن سوى عالم سابق لزمانه، وأن أولئك الذين يرغبون في محو اسمه من سجل الباباوات هم مجموعة من الجهلاء الحمقى.

ليس الهدف هنا التوقف عند سيرة بابا بعينه، لكن المراد القول إن الجسور الإنسانية لم تعدم ألبتة بين الإسلام والكنيسة الكاثوليكية؛ ولاسيما أن الباحثين اليوم يعيدون اكتشاف "سيلفستر" بوصفه مفكرًا تقدميًّا، وجسرًا بين الإسلام والمسيحية التاريخيين، وأحد مناصري البحث العلمي والحقيقة والاعتدال.

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاباته وترجماته من العربية إلى اللاتينية، كانت خطوات أولى ساعدت على بدء تحول أوروبا والغرب من أكثر مناطق العالم تخلُّفًا إلى المكان الذي شهد ميلاد عصر النهضة والتنوير والثورتين الصناعية والعلمية.

وعلى الدرجة نفسها من الأهمية تأتي إعادة اكتشاف أنه على الرغم من المساعي الهادفة إلى خلق فجوة بين المسيحية والإسلام، أو التي لا تركِّز إلا على الصراعات بين الحضارتين، فإن الحقيقة التاريخية تثبت أن هذين المعتقدين والحضارتين كان لكل منهما تأثير عميق لما يزيد على ألف عام، وهذا التأثير أسفر عن الكثير من إنجازات العالم الحديث.

كاتب مصري متخصص في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية