العدد 5184
السبت 24 ديسمبر 2022
المونديال في "كلمتين وبس"
السبت 24 ديسمبر 2022

في أواخر الستينات، وأنا لا أكاد أتجاوز الثانية عشرة من العمر في المرحلة الإعدادية بمدرسة الخميس، أتذكر، رغم مرارة هزيمة يونيو 67، ظل معظم مدرسينا متمسكين بهواهم القومي، لأتعجب اليوم كم كنا كباراً في تلك السن الطرية عند تأثرنا بميولهم السياسية، وبالمناهج المصرية المدبجة صفحاتها الأولى بصورة ناصعة لشخصية الزعيم جمال عبدالناصر في كامل أناقته الجذّابة، وبفقرات قصيرة من خطاباته، والتي كانت مستثناة من المقرر، وإذ أتذكر كان بحوزتي حينذاك جهاز راديو ترانزستور (أكبر قليلا من حجم الكف) كم كانت تستهويني متابعة خُطبه الطويلة من المحطات المصرية، وكذا سائر برامجها، وبضمنها أغاني الفنانين الكبار، لاسيما حين يكون الاستماع إليها ليلاً أكثر وضوحاً، وعلى الأخص في ليالي الصيف الصافية حيث نأوي إلى أفرشتنا فوق سطوح المنازل في أحضان الرطوبة، لنتفاجأ بعد برهة بتكاثف قطراتها الندية على "شراشفها"، كما على جهاز الترانزستور الصغير الذي كان بحوزتي، ومع ذلك فقد كُنا - على سجية طفولتنا البريئة - فرحين بهطول تلك الرطوبة الكثيفة الممتزجة بدرجة عالية من الحرارة، كفرحتنا بالأمطار الشتوية، غير مدركين مخاطر امتدادها طوال شهور الصيف القائظ الطويل!
ولطالما داعبت مخيلتي - في حاضرنا - صور من ذلك الزمان الأثير أثناء متابعتي أحيانا "إذاعة البحرين الطربية" التي باتت تقتصر اليوم على الأغاني المصرية من ذلك "الزمن الجميل"، بعدما كانت لردح من الزمن تبث أروع المنوعات الغنائية من مختلف الأقطار العربية، ويشارك في تقديمها مذيعون بحرينيون بعبارات جميلة. وأتذكر من تلك البرامج التي كانت تروق لي برنامج "كلمتين وبس" للفنان الكوميدي الشهير فؤاد المهندس رحمه الله، وهو برنامج اجتماعي نقدي هادف يتناول الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية في المجتمع. والجميل في هذا البرنامج أنه سهل الهضم للصغار والكبار على السواء، وإن بدرجات متفاوتة من الفهم، سيما أن مدته لا تتجاوز 3 دقائق. لهذا ولكل ذلك أجدني وأنا أخط هذه السطور مقيداً فيها بثلاثمئة كلمة فقط، وإن كُنت - بفضل مرونة المشرف على هذه الصفحة الزميل محمد الحلي مشكورا - أتجاوز أحياناً هذا العدد ببضع كلمات.. أقول أجدني مكتفياً هنا، بالتركيز على ثلاث حقائق، سبق أن تناولتها مفصلة ضمن محاضرة لي بجمعية تاريخ وآثار البحرين.
الحقيقة الأولى: ثمة ظاهرة برزت منذ عقود حتى استفحلت، وتتمثل في تسليع كرة القدم وأنديتها ولاعبيها، ومن ثم إخضاعها لمنطق الربح والخسارة، ناهيك عن المضاربة في أسعار شراء الأندية واللاعبين برضاهم، وتنافس شركات متعددة الجنسية وبأشكال مختلفة في تلك المضاربة. 
الثانية: تسييس "المونديال" إلى درجة مفرطة من الابتذال، وتوظيفه لغايات سياسية، سواء من قِبل الدولة المضيفة، أو من جهات دولية متعددة متعادية في خضم حروبها الإعلامية. 
الثالثة: لا مبالاة المجتمع الدولي باختراق الفساد - بدرجات عليا مهولة - أحياناً بمشاركة "الفيفا"، وأحايين عديدة بمشاركة الدول المستضيفة، والله أعلم كم من مبالغ خيالية أهدرتها بعض الدول على حساب ثروات شعوبها ذات النضوب للظفر بالاستضافة. 
وختاماً نؤكد على بديهية مفروغ منها، لا توجد دولة في عالمنا المعاصر لا يسعدها وشعبها، أيما سعادة، استضافة مثل هذه المناسبة الدولية الجميلة، ولا أحد يغفل أو يتجاهل دورها في توطيد الصداقة بين الدول والشعوب، غير منافعها لاقتصاد الدولة للسياحة والتجارة الداخلية، لكن تُخطئ هذه الدول إذا ما توهمت بأن مثل هذه المناسبات ستعظّم مكانتها الدولية، أو ستمدد حجم رقعتها على الخريطة السياسية، أو ستغير وضعها "الجيوسياسي" على خريطة العالم، إذ سرعان ما ستعود بعد نهاية المناسبة إلى حجمها الطبيعي على الخريطة العالمية، وتظل استضافتها مجرد ذكرى تاريخية عزيزة على قلوبها، أو فقرة صغيرة من فقرات زاوية "حدث في مثل هذا اليوم" الصحافية.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية