العدد 5039
الإثنين 01 أغسطس 2022
banner
الواقع لا يمكن إثباته على الورق
الإثنين 01 أغسطس 2022

أحضر هذه الأيام لكتابة مسلسل إذاعي طويل عن حياة والدنا الأديب والصحافي محمد الماجد رحمه الله، وبينما كنت أراجع الخطوط العريضة للمسلسل مع أحد أفراد العائلة ومن يحمل في ذاكرته مخزونا ثريا عن حياة الوالد بكل تعرجاتها للاستفادة منه في الكتابة، قال لي.. “لا تضيع الحقائق في العتمة، انقل الواقع بحذافيره”.
كان طابع الاعتراض يسيطر على مشاعري، قلت له.. يا عمي ليس هناك أي فن في العالم يحاكي الواقع محاكاة تامة، حتى المصور الفوتوغرافي يسعى أحيانا إلى إضافة بعض الرتوش على المنظر الطبيعي ليجعله قريبا من عالم الفن، ويرى “أندريه مالرو” أن الأشياء نفسها تفقد على يد الفنان بعض خصائصها، ففي التصوير ينعدم العمق وفي النحت تنعدم الحركة.
محاكاة الواقع إذا خروج عن الفن، إذا لم تكن مستحيلة، لأن الواقع لا يمكن إثباته على الورق.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفنان الواقعي لا ينبغي له أن ينظر إلى الواقع نظرة رضا عادية، بل يجب أن ينظر إليه بعين الفنان التي تعيد خلق هذا العالم من جديد. إن إعداد فيلم عن حياة أحد العباقرة أو الأدباء أو علم من الأعلام، يقتضي تركيز اللقطات على إبراز لحظات حياته لا على رتابة أحداث حياته كلها، ففي حياة الإنسان أشياء لا قيمة لها.
لقد كان أرنست همنغواي رائعا لأنه كان يعرف كيف يكتب عن الأشياء من بعيد، كيف كان يحافظ دائما على البعد بين انفعاله والحدث، لأن ذلك يقتضي ضغط الانفعالات المتأثرة بالحدث ضغطا غير فني، والشاعر البارع ليس الشاعر الذي يصف حدثا ما كما هو، أو يروي حكاية بكل تفاصيلها، إنه الشاعر الذي يعيد الخلق من جديد. الواقع هو المادة الأولية للفن، أما الفن فهو إعادة خلق هذه المادة الأولية من جديد، وكل الفنون الواقعية لا ترضى بالواقع بل تبعثره وتعيد خلقه، أما الآثار الأخرى التي تسعى لتقليد الواقع ومحاكاته، فهي نماذج مشوهة للفن.
هذا رأيي الشخصي، وسوف أخطو في هذا الشارع الممتد الذي ينفث الألم والجهد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية