العدد 4604
الأحد 23 مايو 2021
banner
“مجالسنا مدارسنا”... تراث ينبغي المحافظة عليه
الأحد 23 مايو 2021

كلما سمعت الحكمة المعروفة التي تقول “مجالسنا مدارسنا” تعود بي الذاكرة إلى الوراء؛ إلى مجلس المرحوم منصور العريض الذي كنت أواظب على حضوره لثلاث سنوات متواصلة حتى بلوغي سن العشرين، والذي لا تزال مشاهده عالقة في ذهني رغم تراكم وتعاقب السنين.

وعندما قرأت الكتاب الذي صدر بنهاية العام الماضي بعنوان “منصور العريض.. تاريخ وطن” نهضت ذاكرتي لتعيد شريط الذكريات لتجربة “مدارس المجالس” التي أتمنى من أجيال اليوم والغد أن يبادروا إلى إحيائها والمحافظة عليها على الرغم من توفر الوسائل والأجهزة الإلكترونية الحديثة التي تتيح لهم وتضع بين أيديهم كل ما يحتاجون إليه من مصادر المعلومات والمعارف.

ففي العام 1965 وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية، وقبل انخراطي بالدراسة الجامعية، التحقت بالعمل كموظف في إحدى مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة التي كانت تعمل في مجال تزويد مواد البناء، بما في ذلك الرمال والأتربة المستخدمة للردم والدفن.

وفي الأسبوع الأول من التحاقي بالشركة اصطحبني صاحبها لزيارة رجل الأعمال وتاجر اللؤلؤ المشهور منصور العريض في مجلسه، ببيته الواقع في “فريج الحطب” أو “فريج كانو” بالمنامة، وكان المجلس عبارة عن قاعة جلوس كبيرة، عالية السقف، يستقبل فيها ضيوفه ويستخدمها كمكتب له في الوقت نفسه، وكان الهدف من الزيارة التوقيع على اتفاق معه، من ورقة واحدة، لدفن قطعة أرض بحرية صغيرة يملكها في منطقة الحورة من المنامة.

ومثل بيوت الكثير من التجار وعلية القوم في ذلك الوقت، فقد كان الباب الكبير للبيت الكبير لمنصور العريض مفتوحا دائمًا، من ساعات الصباح الأولى إلى منتصف الليل، وكان يؤدي إلى ردهة صغيرة عند المدخل، ثم أخرى أكبر منها يطل عليها المجلس أو قاعة الجلوس، ولا أزال رغم مرور السنين أشم وأتحسس عبق الأصالة والبساطة والوقار والثراء التي كانت تفوح من بين الجدران السميكة لذلك البيت، الذي لم تطله وقتها يد الصيانة أو التجديد لفترة طويلة.

كنت قد سمعت من قبل عن صاحب الدار ومكانته ومقامه وحكمته وحنكته، وكنت أتطلع إلى لقائه، ولم أستطع أن أصدق أن صاحب هذا المقام الرفيع هو إنسان عصامي كفيف البصر، فقد كانت القناعة وقتها، وربما لا تزال عند بعض الناس، أن فقدان البصر يشكل إعاقة مقعدة تمنع الإنسان من أداء عمله، ناهيك عن تحقيق طموحاته وتطلعاته.

وبالفعل عندما دخلت المجلس وجدت صاحب الدار رجلًا كفيف البصر، طويل القامة، ممتلئ الجسم، أصلع، حاسر الرأس، يلبس لباسا غاية في البساطة لا يتعدى إزارًا وقميصًا أبيضين، وينتعل نعالًا عاديًا، ومع ذلك فقد كانت له مهابة وثقل ورزانة، وحضور كاسح محسوس لا يجعلك تشعر بالشفقة والعطف عليه لفقده نعمة البصر، ولكن بالإكبار وبالتقدير لشكيمة رجل يتحدى الظلام، وإنسان يتجاوز حدود الثروة المادية إلى الثراء النفسي، فتصبح البساطة والتواضع عنوانين للغنى والرفعة ومنابع الهيبة والوقار.

بعد ذلك اليوم تكررت وانتظمت زياراتي المسائية لذلك المجلس أو تلك المدرسة، وازداد مع الوقت تقديري واحترامي وإعجابي بتلك الشخصية المميزة، وتعلمت في مجلسه معاني الثقة والأمل والتحدي، وعرفت فيه الفرق بين البصر والبصيرة، وبين النظر والرؤية وبُعد النظر، ورأيت كلمة “التناقض” تتخلى عن معانيها ومضامينها عندما يفقد الإنسان النظر ويحتفظ بالرؤية، وعندما يفقد البصر ويظل محتفظًا بالبصيرة، وفي كل مرة أغادر فيها ذلك المجلس كان يغمر وجداني قول الله سبحانه وتعالى “فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، وقد رأيت لاحقًا وبأم عيني ذلك الرجل الضرير يستعان بخبراته في التعرف على أصالة وجودة اللؤلؤ الطبيعي عن طريق تحسسها ولمسها بأصابعه وتذوقها بلسانه في مشهد يدعو إلى الدهشة والاستغراب والإعجاب.

وقد جمع منصور العريض رحمه الله صفات وخصالا قلما تجتمع في شخص واحد، وكان كل ما يدور في مجلسه من أحداث وأحاديث تشكل سطورًا كتبت أو كانت تكتب في تاريخ تلك المرحلة، كما كانت المعاملات والصفقات التجارية التي تناقش أو تُبرم في المجلس، يبرز منصور العريض من خلالها ويتألق كرجل ذي رؤية اقتصادية نافذة وعقلية تجارية متوقدة.

وإلى جانب حنكته وحذاقته التجارية والاقتصادية، فقد كان منصور العريض شخصية وطنية إصلاحية واعية، بضمير وطني مخلص، يعمل على تعزيز اللحمة والوحدة الوطنية، وينفر من أي نفس طائفي، وكان يتمتع بحس سياسي ناضج، يرفض العنف والمواجهة ويؤمن بالتعاون والحوار بعد أن صقلته تجربته في الهند ومعاصرته لحركة الاستقلال فيها، ومتابعته لمسيرة قادتها من أمثال غاندي ونهرو؛ ولذلك فإنه لم ينجذب أو يتقبل دعوات العنف والحركات الانقلابية التي حدثت في بعض الدول العربية في بداية الخمسينات من القرن الماضي، ولم ينجرف مع التيارات القومية بشعاراتها البراقة التي اكتسحت الساحة السياسية في البحرين في ذلك الوقت.

ومع أن تعليم منصور العريض انحصر في الأسلوب التقليدي بحفظ القرآن الكريم في الكتاتيب على يد والدته؛ إلا أن الله كان قد منَّ عليه بذكاء خارق وانفتاح فكري واسع وذاكرة قوية وفطنة فطرية جعلته يمتاز باطلاع عميق وثقافة مبهرة اكتسبها عن طريق التجارب والممارسات والسفر والاختلاط، والمثابرة على القراءة (قبل أن يفقد بصره في العام 1956).

وكان رحمه الله شخصا فخورا بتراثه، ولم يكن يرى أي تضارب أو تعارض بين الدين والأصالة من جهة والعلم والحداثة من جهة أخرى، فأصبح نتيجة لذلك كله رجلا في غاية الشجاعة والجرأة في طرح أفكاره وآرائه التي اتسمت بالحكمة والروية والاعتدال والوسطية والتسامح واحترام رأي الآخرين.

وقد رأيت كبار التجار وصغارهم، ورجال الدين والثقافة وغيرهم يرتادون مجلسه بانتظام، رأيته يرحب بكل واحد من ضيوفه بالاسم، ويتعرف عليه عند دخوله عن طريق صوته أو حتى من دونه، ورأيته يتحدث للتجار الهنود باللغة الهندية والإيرانيين بالفارسية، وسمعت في ذلك المجلس قصصا وحكايات وروايات عن أحداث ووقائع حدثت في الماضي تحمل بين طياتها ثروة من الخبرات والتجارب في أمور التجارة، وخصوصًا تجارة اللؤلؤ وأنواعه وخصائصه واختلاف أحجامه وألوانه وأصنافه وأجودها، وأسماء الملوك والأمراء والمهراجات الذين يحرصون على اقتناء أفضل أنواع اللؤلؤ البحريني، وتجارة الذهب والمجوهرات، وتجارة العقار، والبناء، واستصلاح الأراضي والزراعة ومختلف إنتاجها، وأنواع الرطب والتمور، ومواسم الحصاد والغوص وصيد الأسماك، وقضايا الأدب والشعر والثقافة والسياسة. كما تتردد في المجلس دائمًا أسماء مدن الخليج وموانئه، ومدينة بومباي ومومباسا وغيرهما، وأسماء قادة ومفكرين وشعراء، وقد شكل منصور العريض والرجال الذين كانوا يرتادون مجلسه موسوعة متنوعة غنية بالأخبار والمعلومات والعلوم والمعارف.

في العام 1968 غادرت البحرين متوجها إلى الهند للدراسة، وفي العام نفسه انتقل الأسطورة منصور العريض إلى جوار ربه وتحت ظلال رحمته، تغمد الله روحه في فسيح جناته.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية